جاءت سنوات الحصار ودخول الجيش العراقي الكويت على الحلم الذي راود العراقيين باستعادة الحياة من خلال الكتاب، لكنها أتت على صورة الوعي والثقافة والحلم الذي كان أكثر اشراقاً في عيون النخب المثقفة في أقل تقدير، إذ سرعان ما تحول الحلم كابوساً، فأي معنى لمكتبة أزاء الحاجة الملحة للرغيف، وماذا يعني أنك مثقفٌ وأنت لا تملك ثمن علبة الحليب لأطفالك، ففي أي مصرف يمكنك تصريف قصيدتك وقصتك ولوحتك وقد أغلقت أبواب مصارف الوعي والاستجابة دونها؟. في السنوات تلك بلغت القطيعة أوجها، وذهب المثقف بائعا لمكتبته، عارضا جهده وقوته في سوق العمل، باع مكتبته بعد أن انتقى منها ما ظنَّ أنه سيستردُ به رغبته في الكتابة ثانية، لكن، أنّى له، فهو في شغل عن ذلك، صارت حاجته للرغيف مسعى وغاية، فهو لا يتناول قصيدةً في إفطاره ولا يغمس رغيفه في روايةٍ ولن تصلح لوحة معلقة على الجدار عشاءً لأطفاله. وهكذا، انقضت سنوات عشر في الحصار مثلما انقضت من قبل سنوات ثمانٍ في الحرب، وبين هذه وتلك ضيعت الثقافة عقدين من عمرها، ذهبت بعيداً عن أهميتها في حياته، أو لنقل كانت عبئاً عليه، فقد قامت بتزوير جانب من أهمية حياته.
وضمن متوالية التهديد والنفي وتعميق الفجوة بين المثقف والمتلقي دخل الربيع العربي طرفاً جديداً، وبين فريق مبتهج بـ (التحرير) وآخر ضائع بـ (الاحتلال) تشظت الثقافة العراقية ثالثة ورابعة، واختل ميزان الإنتاج والتلقي (الكتابة والقراءة) أكثر من مرة، وتقطعت حلقات أخر بين المشهدين وبدأت أسئلة مثل: ما قيمة انتاج النصوص في بلاد تتراجع فيها قيم الخلق الأولى ويقتل الإنسان فيها شقيقه الأنسان؟ ترى،لأجل من يكتب هؤلاء، وما جدوى الكتاب واللوحة والقطعة الموسيقية والثقافة بعامة في مجتمع ذهب بكل طبقاته الى التاريخ، يستنطقه حلماً للمستقبل، أملاً لما هو غارق فيه؟ أيّ قيمة تُرتجى في كتاب من قارئ غير موجود. يقول أحدهم، وهو أستاذ في إحدى الجامعات أنه سأل عدداً من طلابه في إحدى الكليات من المتقدمين لنيل درجة الماجستير عن الكاتب محمد خضير فلم يجبه أحد. أو أنَّ أحدهم اجابه بانه لاعب كرة قدم !!
منذ أكثر من أربعة شهور تسلمت حصتي من كتابي الأخير(كتاب أبي الخصيب) لكنني لا أجد الرغبة في إهدائها لأحد، نعم، أهديت نسخاً قليلة لبعض المقربين، الذين أجد عندهم الرغبة بقراءة الكتاب، لكن، كم عدد هؤلاء؟ خمسين، مئة، مئتان، ثلاثمئة... ألف؟ ينشر بعض الاصدقاء الكتب والشعراء على مواقع التواصل صورا تفيد بنفاذ الطبعة الأولى من كتابه، هم سعداء بذلك، لكن لو سألت عن عدد النسخ التي طبعت لقالوا لك: 1000 نسخة!! يا لهزال القراءة، في بلاد تعداد سكانها 35 مليون نسمة لا يوزع أكبر كتابها أكثر من 1000 نسخة من كتابه، وهب أنه وزع ضعف العدد هذا، هل يعني أنّ الثقافة بخير؟ كنت قد قلت في يوم ما بأننا عيال على الثقافة، وهي مفهوم لما يتبلور في أذهاننا بعد، بلاد فيها أكثر من خمسة ملايين أمّي وتتراجع نسب النجاح في مدارسها الى الـ 28% لدي شكوك كبيرة في تبنيها لمفاهيم الثقافة.
فـي فهم الثقافة وأهمية الكتاب
[post-views]
نشر في: 10 أكتوبر, 2017: 09:01 م
جميع التعليقات 1
ناظر لطيف
مع الاسف وكان العراقيون من اكثر شعوب المنطقة قراءة. مقال رائع لكن الحال لا يختلف كثيرا في معظم البلدان العربية. هناك ازمة حقيقة .لكن نحن في العراق تكاثرت علينا الازمات فالاولى فالاولى.