كم من بلد ينام على قنابل موقوتة، تنفجر بمجرد توفر الظرف الملائم، لا نبحث عن حلول لها في زمن السلم موهمين انفسنا أن الأمور على ما يرام، لكنها ليست كذلك أبداً، الربيع العربي فضح ما هو كامن لعقود، ربيع حرك هذا الكامن وحوله الى نزاعات طائفية وعرقية وقومي
كم من بلد ينام على قنابل موقوتة، تنفجر بمجرد توفر الظرف الملائم، لا نبحث عن حلول لها في زمن السلم موهمين انفسنا أن الأمور على ما يرام، لكنها ليست كذلك أبداً، الربيع العربي فضح ما هو كامن لعقود، ربيع حرك هذا الكامن وحوله الى نزاعات طائفية وعرقية وقومية، إنه النار الكامنة تحت رماد السلم المؤقت .
" القضية ٢٣" للمخرج زياد دويري، صاحب فيلم "بيروت الغربية " الذي حول مشاجرة له مع شخص آخر الى فيلم بدلالة عميقة، نابشاً في تاريخ العلاقة الملتبسة والخطرة بين مكونات المجتمع اللبناني العلاقة بين المسيحيين الراديكاليين، واللاجئين الفلسطينيين بانتماءاتهم المختلفة، من خلال مشاجرة بين ميكانيكي مسيحي وعامل فلسطيني، تكاد تتطور لتصل الى حرب اهلية جديدة، مبيناً أن أي مشادة حتى لو بدأت بشتيمة قد يحولها البعض الى قضية كبرى، هذه العلاقة لا تقتصر على لبنان وحده، بل هي قضية العديد من المجتمعات العربية التي يتكون سكانها من قوميات وديانات ومذاهب مختلفة، لم تفلح الأنظمة والقوانين الموضوعة فيها في خلق تعايش سلمي حقيقي، واذا كان ذلك قد تحقق في فترة ما فبسبب انظمة قمعية ودكتاتورية، لم يكن من مصلحتها اثارة النزاعات، وحين حلت الديمقراطية المصدرة للبعض منها، اتضح عمق الهوة بين هذه المكونات وخاضت وما زالت صراعات قد لا تنهي قريباً أو قد تتسبب في تقسيم هذه البلدان .
لبنان من اوائل الدول التي عانت هذا الأمر، حروب اهلية طويلة، ما أن تنتهي واحدة حتى تبدأ اخرى، تدخلات في شأنها الداخلي من قبل دول مجاورة، صراع لا يهدأ حتى في وقت السلم بين مكوناته متمثلة بزعمائها السياسيين، لذلك جاء زياد دويري ليبحث في هذا الموضوع الذي يبدو ساكناً وهادئاً حالياً.
مشاجرة بين عامل ميكانيك مسيحي راديكالي وبين عامل بناء فلسطيني، تعمل شركته على اعمار الضاحية التي يسكن فيها الميكانيك طوني "عادل كرم" ولأن مرزاب الماء في بلكونة شقته يعيق عمل الشركة، يقوم العامل الفلسطيني ياسر "كامل باشا" بإزالته ووضع آخر بدله بشكل نظامي، لكن الميكانيكي يرفض ذلك ويحطم الانبوب ويلقي بالماء على العامل الذي يشتمه، يحرك الضامر في عقل ونفس الميكانيكي، خصوصاً وأن ذاكرته والمذبحة التي طالت قريته عندما كان طفلاً مازالت عالقة في ذاكرته، وخطابات الرئيس جميل تغذيها كل يوم، فيجد في الشجار بينه وبين العامل ياسر متنفساً وتفريغاً لما يضمر في قبله .
طوني يطالب مهندس شركة البناء باعتذار من قبل العامل ياسر، الذي لا يجد مبرراً لاعتذاره، لكنه تحت ضغط رب العمل الذي يبحث عن مصلحة الشركة وديمومة عملها، يذهب ليعتذر من طوني في ورشته، لكن بدل الاعتذار تتطور المشاجرة لتأخذ منحى آخر، طوني يشتم ياسر بجملة "ياريت كان شارون محاكن عن بكرة ابيكن" ليضربه ياسر، كاسراً له ضلعين، فتذهب القضية الى المحكمة التي تشهد صراعاً هي الاخرى بين محامٍ مشهور ينحاز للمسيحيين اللبنانيين وبين ابنته المحامية التي تدافع عن ياسر، المحكمة لا تحل القضية، يعتذر ياسر بطريقته الخاصة خارج المحكمة، الرئيس اللبناني يدخل على الخط ولا يستطيع ايجاد الحل والمصالحة، في النهاية تحكم المحكمة ببراءة ياسر مع رضا واضح لطوني، لكن مع غضب من يريدون للمشكلة أن تستمر وتكبر.
المخرج زياد دويري وزوجته جويل توما، كتبا السيناريو، ويبدو أن معرفة زياد بواقع الأمور وكيف تسير، جعل السيناريو الذي كتبه متماسكاً، غير منحاز، فلا أحد افضل من الآخر، وليس ثمة شر يأتي من فراغ، الكل فيه شيء من الخير وشيء من الشر، في قمة خلافهما وبعد خروجهما من مقابلة رئيس الجمهورية الذي يفشل في فض النزاع بينهما، تتعطل سيارة ياسر، ينتبه طوني الى ذلك فيعود إليه ويساعده في تشغيل سيارته، إنها الانسانية والروح الطيبة التي يمتكها الاثنان.
الحوار بين الاثنين، والحوار الآخر جاء بوقع يحمل الكثير من التوتر، خصوصاً من قبل طوني، حوار لا يكتبه إلا من شعر بنفس الاحساس اتجاه آخر ما في يوم وظرف ما، هدوء ياسر وأخذه وقتاً للتفكير، كان المعادل لحوار طوني، الحوار بين اطراف النزاع والمحامين كتب بدقة وبين زوائد، وجاء تارةً ليثير ويعقّد الأزمة وتارةً يحاول أن يقترب من الحل، لكنه يبقيه بعيداً، ذاهباً باتجاه كشف الكثير من خبايا الأمور .
زياد دويري أدار ممثليه بحرفية عالية "جائزة افضل ممثل لكامل باشا في مهرجان البندقية السينمائي" في حين أدى عادل كرم واحداً من أفضل أدواره برأيي .
الكل متشابه، لا فرق بينهم، هذا ما خلص إليه الفيلم، ويقول زياد "دخلت على قدر الإمكان في التاريخ ولكن من دون مبالغة، ما من فئة (في حرب لبنان 1975-1990) يمكنها أن تقول عن نفسها أنّها كانت وحدها مضطهدة، وما من فئة يمكنها أن تقول إنها وحدها جُرحت، فثمة فئة أخرى لها الحق أن تقول أيضاً إنها دفعت دماً خلال الحرب".
في الأخير فإن فيلم " القضية 23 " تذكير بأن الجراح لم تندمل بعد، وإن الرماد الذي يغطي جمراً يمكن أن يتقد في اية لحظة، وإن المسكوت عنه تكمن خطورته في هذا السكوت، وحان الوقت لحل ومعالجة كل المشاكل، ولا مجال لأن يتحمل البلد حرباً أخرى.