هل تكفي الروايات والقصص لتدوين ذاكرة الأوطان المهددة بالانقراض؟؟ من يحفظ الذاكرة الشعبية ووقائع الحروب وسلوكيات الناس خلال أزمنة الأزمات؟؟ من يحفظ الحكايات والأطعمة وعادات الاحتفال بالمناسبات العائلية والتراثية؟؟ والملابس والأغاني؟؟ من تراه سيحمي ذاكرة بلاد تعرضت للاختراق والهدم بفعل صراعات الأعراق والطوائف وهيمنة الاستبداد والسياسات الغبية الجائرة؟؟.
تركز أولى ممارسات الغزو والحروب الأهلية على محو الذاكرة الثقافية للعدو بخاصة في البلدان ذات العمق الحضاري المديد، إذ يستهدف العدوان –بدءاً- المواثل الحضارية والأمكنة الأثرية والمكتبات والمتاحف والجامعات ودور السينما والمسارح ومعارض الفن، ويعمد إلى تفجير المباني التراثية والكنائس والجوامع ومعابد الأقليات بعد سرقة نفائسها ومخطوطاتها، وفي مثل هذه الحروب يهرب الناس ناجين بأنفسهم من هول الجحيم والموت الذي يحاصرهم كل لحظة، فلا يحملون معهم سوى متاع قليل وذاكرة مجروحة وآلامٍ تجلّ عن الوصف تركها فقدان الأبناء والممتلكات والمنازل والوطن، ويواصل هؤلاء المشردون العيش في بلدان اللجوء التي لن تصبح أبداً وطناً بديلاً، فمعظم بلدان المنافي تشترط على اللاجئين أن يندمجوا ويتعلّموا لغتها، أن يتخلَّوا عن ذاكرتهم وثقافتهم وعاداتهم وهويتهم ويعتنقوا عادات بلد اللجوء وثقافته دون أن يتمكن معظمهم من الاندغام الكلّي في الثقافة الجديدة.
تعاني غالبية اللاجئين من حالة فصامية شديدة الوطأة ، فهم يترنحون بين رغبة دفينة للاحتفاظ بذاكرة بلدانهم وثقافتهم ولغتهم الأم وبين ضرورات الاندماج التي تتطلب التخلّي عن ماضيهم وتقمص شخصيات جديدة، فيتعذر عليهم التعبير بلغتهم الأم عن أحلامهم وعواطفهم ورغباتهم في الوقت الذي لا يحسنون فيه الأمر ذاته باللغة الجديدة التي شرعوا يتعلمونها، وعندها يرون الأبواب موصدة بوجوههم ولا خلاص، وتبدو جميع الحلول مستحيلة: فإما العودة للوطن الذي تشتعل فيه نيران الصراعات وذلك يعني الموت المحتم، وإما الضياع في عزلة الغربة والانكفاء على ذاكرة معطوبة، وإما القبول بالواقع والاندماج في الحياة الجديدة.
تتناول الروائية الكرواتية دوبرافكا أوجاريك موضوع الحفاظ على ذاكرة المنفيين في روايتها (موطن الألم) بأن تقيم بطلة الرواية المدرّسة تانيا (المتحف الافتراضي اليوغسلافي) لتوثيق الحياة اليومية في يوغوسلافيا السابقة وتطلب من طلبتها المتحدرين من بلادها استرجاع ما يمكنهم استرجاعه من ذاكرة بلادهم وتدوينه كل من وجهة نظره وهم الآتون من وطن متنوع الأعراق، وتحدث المفارقة عندما تبرز الاختلافات العرقية والقومية والدينية وتؤجج الأحقاد التي أوجدتها الصراعات والحروب. يكتب الطلبة كلٌّ من خزين ذاكرته العرقية عن أوجاع عرقهم ومظلوميّته وحقوقه المسلوبة، يكتبون عن الأشياء الجميلة التي عرفوها بين أحضان الأهل وأغاني الحب والرقصات والأطعمة والروائح والثياب وتتعاظم نزعة التضاد بينهم وبين مدرّستهم التي يحتفلون بعيد ميلادها، وبعد الحفل تبرز الروح الانتقامية لديهم فيتبرع أحدهم بتقديم شكوى ضدها لدى رئيس القسم بأنها لم تدرّسهم شيئاً ذا قيمة.
تبرز حالة التشظي الروحي أو الفصام النفسي لدى الطرفين، فوشاية الطلبة بمدرستهم كانت نتيجة الفوضى الروحية والعقلية التي يعانيها المنفيّ وهو يقف غريباً ووحيداً بلا جذور ولا هوية راسخة، وتعاني الأستاذة تانيا ذاتها من الفصام بقدر يكفي لتعزيز رغبة الانتقام من طلبتها الذين خانوها وتفضح هذه الحالة مقدار الضياع الذي يكابده المنفيّ المقتلع من جذوره بفقدانه لهويته ولغته وذاكرته وهو يحاول مرغماً اعتناق حياة جديدة؛ فماذا سيحدث لذاكرة بلادنا؟ ومن سيدوّن ذاكرة وطن يتلاشى؟ وهل ستكون ذاكرة وطن أم ذاكرة طوائف وأعراق مظلومة؟.
من يدوّن ذاكرة البلاد؟
[post-views]
نشر في: 14 أكتوبر, 2017: 09:01 م