بورخس العاشق:تتنبّه آليس لصياح اليسروع وراءها؛ (ارجعي، لديّ شيء مهم أقوله!)، وهكذا نخطو معها فنطلع على درس الأستاذ؛ نلتقي بورخس العاشق وبورخس الكاتب وبورخس القارئ.. من تراه يقودنا في هذه الرحلة العجائبية؛ أهي آليس، أم هو مانغويل، أم الكاتب الخفي بين
بورخس العاشق:
تتنبّه آليس لصياح اليسروع وراءها؛ (ارجعي، لديّ شيء مهم أقوله!)، وهكذا نخطو معها فنطلع على درس الأستاذ؛ نلتقي بورخس العاشق وبورخس الكاتب وبورخس القارئ.. من تراه يقودنا في هذه الرحلة العجائبية؛ أهي آليس، أم هو مانغويل، أم الكاتب الخفي بين طيات الكتاب؟ مانغويل من القلة النادرة التي حظيت بالصداقة مع ذلك الكائن المهيب الذي يبدو وكأنه انسلّ خلسةً من بين طيات مخطوطة قديمة، باسمه ذي الرنين اللاهوتي؛ بورخس.
يرى ألبرتو مانغويل في كتاب (فن القراءة.. ترجمة عباس المفرجي.. دار المدى/ بيروت 2014) أن ما يقرر جوهر كتابات بورخس ليس المتاهة "بل فكرة أن شيئاً، أو مكاناً أو شخصاً أو لحظة هي كل الأشياء، الأمكنة، الأشخاص، واللحظات"ص93. وهو نوع من إيمان معقّد بالعود الأبدي والخلود، فكل ذات عائدة إلى الحياة.. هنا تصبح الكتابة الأدبية نوعاً من التعزيم لطرد فكرة الموت والفناء. وعلى الرغم من هذا لم يحلم بورخس بأن يُتذكَّر. يخشى ذاكرة التاريخ النزوية بتعبير مانغويل. ولم يشغله هاجس الشهرة "كان يتوق إلى نسيان شخصي؛ من أجل أن تكون إلى الأبد، لا من أجل أنك كنت" ص106.
كره بورخس السياسة ووصفها بالنشاط الأكثر خسّة من كل الأنشطة البشرية. وكان محافظاً في تفكيره، نخبوياً ارستقراطياً.. صورته توحي بجدية مفرطة، لكنه كان ساخراً أيضاً، وحتى هازلاً في أحايين كثيرة. آمن بالخيال الذي يتيح لنا صياغة القصص وروايتها. وأعلن أن "التأليف هو شيء عرضي" ص116، وأن "القارئ هو الذي يحدد طبيعة النص"ص117.
لعلّ في واقعة محاضرته عن (لغز شكسبير) في الاجتماع العالمي الثاني للباحثين الشكسبيريين في واشنطن نيسان 1976 دلالات لا تحصى عن شخصية بورخس، حضوره الكاريزمي، وكيفية تعاطيه مع الأشياء.. يقتبس مانغويل صفحة من كتاب (جوهر المسرح) ليان كوت الذي كان حاضراً ذلك الاجتماع.
"وقف كل من في القاعة، واستمر الترحيب الحماسي عدة دقائق. بورخس لم يتحرك. أخيراً توقف التصفيق. بدأ بورخس بتحريك شفتيه. صوت همهمة غير واضحة كان مسموعاً من مكبِّرات الصوت. من هذه الهمهمة الرتيبة يمكن للمرء بأعظم الآلام فقط تمييز كلمة وحيدة واصلت التردد كصراخ مكرر من سفينة بعيدة، محجوب صوتها بصوت البحر: (شكسبير، شكسبير، شكسبير..). كان المايكروفون منصوباً عالياً جداً، لكن لا أحد في القاعة تجرأ وتقدّم لتوطئته أمام الكاتب العجوز. تحدّث بورخس لمدة ساعة من الزمن، ولمدة ساعة فحسب كانت هذه الكلمة المكررة ـ شكسبير ـ تصل إلى آذان المستمعين. خلال هذه الساعة لا أحد نهض وغادر القاعة. بعد أن انتهى بورخس، نهض الجميع وبدا أن هذا الترحيب الحماسي النهائي لن ينتهي أبداً"ص121.
صورة (شيْ) ميّتاً:
ثمة ميتات تغدو استعارات وجودية كبرى، تأخذ بعداً ميتافيزيقياً، كما لو أنها إشارات أو نُذر من عوالم غير مرئية تتحكم بالأرواح ومصائرها. كذلك كان موت شيْ غيفارا. شي الذي بات أكثر حضوراً بغيابه. تذكاراً أبدياً للضمائر اليقظة. رمزاً لشيء يعسر القبض عليه، لكنه يحوز الواقع العياني نفسه ويتفوق عليه.. إنه الموت الذي يحلم به سُعاة المجد. يتمناه أي أحد من أولئك الذين لا يطيقون الاختباء في بيوتهم.
يقرأ مانغويل موت شيْ غيفارا من منظور جيله، وأيضاً بصحبة آليس الداخلة في المرآة، مقتبساً تصديره لفصل (المذكّرة):
"(رعب تلك اللحظة) واصل الملك قائلاً (لن أنساه أبداً، أبداً).
(ستنسى مع ذلك) قالت الملكة (إلا إذا صنعت منه مذكّرة)"
يرسم مانغويل: "صورة شي ميتاً، بصداها الذي يرجِّع على نحوٍ لا سبيل إلى اجتنابه صورة المسيح الميت (الجسد النصف عاري والوجه الملتحي المتألم)، أمست واحدة من الإيقونات الأساسية لجيلنا"ص127. مستحضراً المناخ الستيني؛ التمردات، ثورات الطلاب، الولع بالكفاح المسلح، موسيقى الروك أند رول، أدبيات اليسار الرائجة، حركات الحريات المدنية، أغاني التانغو، الخ.. كان موت تشي يؤسس أسطورته، ويصنع حدثاً كونياً من نوع رفيع.. فشي كان رجل فعل ضد ما اعتقده خاطئاً وظالماً، على الرغم مما قيل "عن نهجه السياسي أنه كان ملتبساً، فلسفته السياسية سطحية، أخلاقيته لا ترحم، نجاحه النهائي مستحيل، بدا (وربما ما زال يبدو) أقل أهمية من واقع أنه أخذ على عاتقه قتال ما كان يؤمن أنه خطأ حتى لو لم يكن على يقين تام أن ما سيأتي بدلاً منه هو الصواب" ص130.
كان موت شي متوقعاً، وصادماً في الوقت نفسه. وبدا أن العالم كان بحاجة إلى شي الميت أكثر من حاجته لشي الحي.. لماذا؟ لأنه: "بعد ذلك الموت تغيّر شيء ما. شي، المتوهج إنما المثقف التقليدي، أمسى على نحوٍ متعذّر تغييره رجل فعل، وهذا ربما كان قدره المكتوب له دائماً، حتى لو كان يبدو كل كيانه يقاومه. مجهداً بالربو الذي كان يجعله يتلعثم أثناء الأحاديث الطويلة، واعياً بمفارقة أن يكون مولوداً في طبقة استفادت من نظام غير عادل كان يتمنى كفاحه، متنقلاً بغتة إلى الفعل بدلاً من التفكير مليّاً بالأهداف الدقيقة لفعله، تولى شي، بعزم لا يلين، القيام بدور البطل الرومانسي المقاتل وصار الرمز الذي احتاجه جيلنا من أجل راحة ضمائرنا"ص134.
القارئ المثالي:
أن نلحق الفن بنشاط القراءة كما عند مانغويل، إذن لابد من أن نتحرى عن القارئ المثالي، هويته، وطبيعته الذهنية والسيكولوجية، وموقعه بين الآخرين.. ونسأل فيما إذا كان هناك كثر من الناس هم قرّاء مثاليون؟ وهل الكاتب بحاجة إلى عدد وفير من هؤلاء أم عليه الاكتفاء بقراء جيدين يجدون في قراءة كتبه السلوى والمنفعة والمتعة؟.. يشمل المفهوم جمهوراً عريضاً متنافراً، لا يجتمع على قاعدة واحدة.. فهو مانغويل الخائض بالكتابة في عوالم الكتب وفن قراءتها لا يمكن إلا أن يكون قارئاً مثالياً، كما أن "بينوشيت (ديكتاتور تشيلي السابق) الذي حظر (دون كيخوته) لأنه اعتقد أنها تحرِّض على العصيان المدني، كان هو القارئ المثالي لذاك الكتاب"ص232.
يرى مانغويل القارئ المثالي بلا جنسية محددة، متلوناً بلا حياء، وقد يستغرقه الوهم إلى الحد الذي يقع فيه في غرام شخصية متخيلة.. يقرأ جزءاً من أي كتاب كسيرة ذاتية، ويعرف ما يعرفه الكاتب وحده بالحدس.. قادراً على تشريح النص، لكنه ليس محنط حيوانات.. إنه مترجم على وفق طريقته الخاصة.. هذا مما يقوله، ويقتبس من إيمرسون: "على المرء أن يكون مخترعاً كي يقرأ جيداً"ص229. وينتهي بتأكيد أن "الكتّاب ليسوا أبداً قراء كتبهم المثاليين"ص234.
يصبح كل حدث، كل واقعة، موضوعة للقراءة.. نحن نقرأ العالم في كل لحظة.. وجودنا على الأرض بدأ بقراءة خاطئة.. يقول مانغويل: "الطرد من الجنة يمكن أن يُفسّر كعقاب على قراءة غير صحيحة على نحوٍ مقصود"ص250.. نحن وجود في ذلك الصدع بين قراءة العالم (صحيحة كانت أو غير صحيحة) وحقيقته التي لا تُمسك.
نعود للقارئ المثالي الذي يمنحه مانغويل تعريفاً آخر: "القارئ المثالي منتهك عديم الشفقة للقواعد والضوابط التي يضعها كل كتاب لنفسه"ص232. ويشير في مكان آخر إلى القراءة الفوضوية التي لابد لكل معلم أن يلقِّنها ويزرعها في روح تلامذته، ومؤداها "الشك بالقواعد والقوانين، البحث عن تفسيرات في العقائد، مواجهة الأشياء المفروضة دون الخضوع للأحكام المسبقة، المطالبة بالحق من أصحاب السلطة، إيجاد مكان يمكنهم التعبير عن أفكارهم الخاصة بهم، حتى لو أدى ذلك إلى معارضة المعلّم نفسه، وفي النهاية التخلص منه"ص245.
حلم المكتبة:
لا الفردوس كما في حلم بورخس، بل العالم كله، ماذا لو انتهى في تصميم مكتبة هائلة؛ رفوف لولبية، تلتف حول الكرة الأرضية، لا حدّ لها، من الكتب؟ مكتبة تتعطل فيها لعنة بابل كما أرادها مانغويل.. والمواطن العالمي، بهويته الجديدة، المنكِّلة بالإثنيات والطوائف، هو المواطن القارئ المختار.. مؤتلف مع أي مواطن آخر في مقصد الحرية والسعادة، ومختلف عنه في؛ ماذا يقرأ، وكيف يتمثل ويتذوق ويقوِّم، والطريقة التي بها، ومعها، تغيّره كل قراءة، وتشذّب بعده الإنساني وتجمِّل روحه؟
وكما عرّف مانغويل القارئ المثالي، عرّف كذلك المكتبة المثالية التي تصوَّرها معدّة لقارئ بعينه يشعر أنه القارئ المختار. وبقي هاجس اللانهائية يسكنه وهو يكيّف مخيلته ليحيل مكتبته المثالية إلى عالم منسجم، حيث "توحي بنص واحد مستمر بلا بداية قابلة للرؤية ولا نهاية قابلة للتنبؤ" ص397.. ويستدرك:
"في المكتبة المثالية لا توجد كتب ممنوعة ولا كتب مزكّاة.
المكتبة المثالية هي قريبة لكل من القدّيس جيروم ونعوم تشومسكي.
في المكتبة المثالية ما من قارئ شعر أنه غير مرغوب به.
كل صفحة في المكتبة المثالية هي الصفحة الأولى. ولا أي منها هي الصفحة الأخيرة"ص397، 398.
لا شيء يحرِّض على الحياة كالمكتبات.. لا شيء يسحر مثلها، ويفتن ويروِّض الألم، ويعيننا على الإحساس والالتذاذ بمباهج العيش وتحمّل رعبه.. المكتبة ذاكرة ومنزل وحلم.. عمارة وتشكيل وموسيقى.. المكتبة سردية كلية لوجودنا في العالم.
لكل مكتبة مهما كانت صغيرة، حلم مكتبة كونية.. حلم الإنسان والآلهة والطبيعة.. حلم اللغات بالكمال المستحيل.. خبل الحلم كما تجلّى عند بابل والإسكندرية.. يقول مانغويل:
"لأنه خلف كل كابوس غامر لكون هو تقريباً لا نهائي يكمن حلم بابل المجنون، في الوصول إلى حدوده بعيدة البلوغ، وحلم الإسكندرية المجنون، في اقتناء كل ما يمكن معرفته عن طبيعته الغامضة وجمعها تحت سقف واحد. كل مكتبة، مهما كانت صغيرة، هي مزيج من بابل والإسكندرية، ومن ثم هي مكتبة كونية واسعة النفوذ، بما أن كل كتاب هو شاهد على قرابته لكل الكتب الأخرى، وكل رف لابد من أن يعترف بعجزه عن احتوائها" ص404.