TOP

جريدة المدى > عام > العمارة البغدادية تجدِّد عافيتها.."جائزة تميّز" مؤسّسة عراقية في جغرافيا بعيدة

العمارة البغدادية تجدِّد عافيتها.."جائزة تميّز" مؤسّسة عراقية في جغرافيا بعيدة

نشر في: 23 أكتوبر, 2017: 12:01 ص

عندما يأتي الحديث عن العمارة العراقية، نجد أنفسنا بإزاء متن مهم وعميق في تأريخ المدنية البغدادية الحديثة، وباعتقادي، إن لحظة هذه المدنية، ولدت بشكل أكثـر وضوحاً منذ أربعينيات القرن الماضي، وتطورت مع اقتراحات المعماريين والتشكيليين العراقيين، الذين أت

عندما يأتي الحديث عن العمارة العراقية، نجد أنفسنا بإزاء متن مهم وعميق في تأريخ المدنية البغدادية الحديثة، وباعتقادي، إن لحظة هذه المدنية، ولدت بشكل أكثـر وضوحاً منذ أربعينيات القرن الماضي، وتطورت مع اقتراحات المعماريين والتشكيليين العراقيين، الذين أتاحت لهم الدولة الناشئة حينئذٍ، فرصة الدراسة في معاهد العمارة والفن العالمية.

 

وهي لحظة يصعب تفسيرها على نحو دقيق دون الرجوع إلى حالات مشابهة، ولدت في مناطق أخرى من العالم. فمثلاً، لابد من تذكر تزامن بروز العدد الكبير من المبدعين في النصف الأول من القرن الربع عشر في فلورنسا، حيث ولادة أهمّ المعماريين والتشكيليين والمفكرين، ليشكّلوا ولادة طبيعية للمذهب الإنساني، ولما بات يعرف بعصر النهضة، فبالإضافة إلى اسماء الأساتذة المصورين والنحاتين ظهر برونلسكي والبرتي وسواهما ليشكّلوا عماد تطور المدينة الحضري، ونقلها من ثقافة العيش في القرون الوسطى إلى الرينسانس. وهذه الحال يمكن رصدها بشكل أقل تأثيراً مع ولادة المدرسة الانطباعية في فرنسا، التي تغير بعدها واقع الفن والثقافة الفرنسية. كما يمكن ملاحظتها في ألمانيا والنمسا مع ظهور الباوهاوس متزامناً مع الحركات التعبيرية وبدايات التجريدية.ماهي أسباب ظهور عدد من الفنانين والمعماريين الأفذاذ في لحظة تأريخية فارقة بحد ذاتها لا يمكن تكرارها؟ هل هي لحظة تبدل مزاج ثقافي حاد نحو عتبة تأريخية جديدة؟!
ظهور جواد سليم وفائق حسن ومحمد مكية وعبد الله إحسان كامل ورفعة الجادرجي وقحطان عوني وسواهم في فترة زمنية واحدة، وضع أمامنا مرحلة انكشاف جديدة على مدنية واقعية، تتعلق بنمط الحياة نفسه وتؤثر فيه ذلك التأثير العميق.
شخصيا ًلا أملك جواباً محدداً لمعنى تزامن ظهور عدد من المجددين في حقبة بعينها، كما لم يفسر لنا المؤرخون الأمر ذاته عندما حدث مع فلورنسا مثلاً. هذا من الأسئلة العصية على الأجابة الواضحة. فالبعض يعدهم نتيجة تطورات ثقافية طبيعية، بينما يجدهم البعض الآخر عبقريات ضرورية لصناعة مرحلة تاريخية جديدة.
الشيء الذي أعرفه، هو إن رحلة مهمة في تاريخ العمارة البغدادية، تواصلت منذ ظهور أول جيل معماري عراقي، صادف إن وجد نفسه قريباً من جيل تشكيلي فذ لديه طموحات كبيرة في الألتحاق بالعالم الحديث آنذاك حتى هذه اللحظة وعلى الرغم من غياب العمارة وثقافتها عن حياتنا لعقود.
إذاً، فإن الحداثة العراقية هي حداثة معمارية بقوة. وإن تأكيدنا المتواصل على أهمية "الحداثة الشعرية" التي ولدت مع السياب ونازك والبياتي وبلند الحيدري، هو تكرار زائف لحداثة هي الأخرى مزيفة لا تمس جوهر حياتنا، وهي نتيجة أكثر منها سبب. ولعلنا أعتدنا بسبب من أهمية (الشعر) في خطابنا على رسم تأريخ "ثقافتنا" شعرياً، بطريقة تحقيب الأجيال على نحو عقود متتالية، ونسينا أن نفعل الأمر نفسه مع الأجيال المعمارية، التي تستمد شرعيتها من أسس المدرسة المعمارية البغدادية كما نظر لها روّادها. والحق، إنه لولا جهود المعماري الكبير رفعة الجادرجي النظرية، وعطائه الثر في رصد التبدلات الجمالية والوظيفية لعمارتنا، ومشاريعه ومشاريع زملائه المنفذة في بغداد، وجهود الدكتور خالد السلطاني، التي تعادل جهود مؤسسة بحثية متكاملة، لكنا نعيش عماءً ثقافياً وأمّيةً وجهلاً في ما يتعلق بهذه المدرسة، التي هي قلب ما نطلق عليه بالعراق المدني في أدبياتنا. من هنا يمكنني القول: إن بغداد المدنية هي عاصمة معمارية بالدرجة الأساس، رغم إن شكلها الحالي، لا يشي بهذا الأمر إطلاقاً، ولكنها بقيت ولفترة عقود وليدة رؤية جمالية وتشكيلية، وضعت قواعد مدنيتها في منتصف الأربعينيات نخبة من الشباب العائدين من الدراسة في الخارج. ففي داخل الفضاء، الذي تشكل حولهم، ولدت الحياة الحديثة بمعناها المدني وتوطت فيها. فنهاية عصر الحوش البغدادي وظهور البيت الجديد بحديقته ونوافذه وشرفاته ومساحاته الداخلية وتقسيماتها الوظيفية هو من رسم شكل الحياة البغدادية والتي نصارع حتى هذه اللحظة من أجل بقائها، وهي الظهير الخفي الذي تستند إليه شعاراتنا المدنية حتى في إطارها السياسي. وبدونها فإننا نتحدث عن مفهوم ضبابي ليس له وجود واقعي.
فالمدنية هي أولا وأخيراً سلوك منضبط ينسجم مع إمكانات استخدام تكنلوجيات العمارة الحديثة واستعمالها وليس شعاراً سياسياً أو مطلباً أيديولوجياً فضفاضاً. فلا مدنية بدون رؤية معمارية لديها مرونة عالية في الاستجابة لظروف ثقافية وبيئية تضع قواعد جديدة للعيش في المدن.
اللحظة التأسيسة للعمارة البغدادية ولدت ولادة طبيعية وقوية. ترافقت فيها الرؤية النظرية مع المنجز العملي. ومثلما لدينا خطاب شبه متماسك في هذا الشأن، لدينا مبانٍ وشواخص تحكّمت في تشكيل أسس الحياة البغدادية. وتواصل ذلك بقوة ـ وإن كانت غير منظورة جيداً ـ بسبب غياب النقد الثقافي شبه التام عن رصد التبدلات في حياتنا، لكنها بقيت تعمل بتمظهرات نظرية وعملية مختلفة.
في الأسبوع الماضي، دعيت للمساهمة في أربع جوائز تحكيمية، تقيمها "جائزة تميز" في جامعة كوفنتري البريطانية. وكانت واحدة من هذه الجوائز تحمل اسم المعمار العراقي رفعة الجادرجي. ساهم فيها عشرات المصممين من حول العالم. لتقديم تصميم لإعمار مدينة الموصل يعتمد حلولاً ثقافية وبيئية واقتصادية، بالإضافة إلى الوظيفة الجمالية التي تعتمد هوية المدينة التأريخية. وأطلعت على عدد كبير من هذه التصاميم، التي لم يجد منفذوها من بيانات مهمة، تساعدهم في معرفة البيئة والثقافة الأنثربولوجية التي تخص هذه المدينة، غير ما تيسر من مؤلفات الدكتور خالد السلطاني في ما يتعلق بالعمارة العراقية بشكل عام، وطروحات رفعة الجادرجي، وبعض البيانات الحكومية الفقيرة هنا وهناك. وعلى الرغم من هذا الأمر المؤسف، شاهدت تصاميم قيّمة ذات بعد جمالي ووظيفي غاية في الروعة.
المهم عندي، إن هذه الجائزة التي تشرف عليها جامعة بريطانية مرموقة، ويحكم فيها معماريون عالميون من أمريكا وفرنسا واسبانيا وبريطانيا، بالإضافة إلى معماريين عرب وعراقيين، هو إنها جائزة عراقية بكل جدارة، اقترحها شباب عراقيون يدرسون في الغرب، ومنعتهم الظروف من إقامتها في بلدهم والذهاب بها إلى جغرافيا بعيدة. وإذا كان هذا النجاح يحسب لجهودهم الفردية، فهو أيضاً يشكّل بهذا المعنى أو ذاك، إضافة تراكمية لمسيرة العمارة البغدادية، التي ترفض التخلي عن دورها.
ولئن كانت الدفعة الأولى من مبتعثي "المملكة العراقية" وجدت عند عودتها من الدراسة في الأربعينيات فراغاً هائلاً بانتظارها، وأتيحت أمامها فرص عظيمة لم تتحقق لسواهم، فإن الفراغ المطلق الآن، قد منع المعماريين الشباب من حيازة أيّ فرصة ممكنة للمساهمة في بناء بلدهم، الذي لم تبن فيه طابوقة واحدة.
أحمد الملاك، مهندس معماري شاب، تخرج من جامعة كوفنتري ويدّرس فيها كما أعتقد، هو صاحب فكرة " جائزة تميّز" التي دعمتها عند تأسيسها الراحلة زها حديد، وترأست بنفسها لجنة تحكيمها الأولى عام ٢٠١٢ لتتحول إلى مؤسسة مرموقة ومعتبرة في الأوساط العالمية، حيث يسهم فيها سنوياً نخبة من ألمع نجوم العمارة في عالمنا اليوم، وتدعمها مؤسسات عالمية كبيرة، و حصلت "تميز" على حداثة تجربتها، على ستة مقاعد لدراسة الماجستير لطلبة عراقيين تم قبولهم برعاية مؤسسات مهمة في جامعتي كوفنتري وبوليتكنيكو في ميلان. بالإضافة إلى تدريب ١٢ مهندساً في مكاتب استشارية عالمية. عدا هذا، فإن الجائزة تحظى باهتمام المعماريين في كل القارات، لما عرف عن حياديتها وشفافيتها. ومن أجل ذلك يتسابق إليها مئات المهندسين سنوياً للفوز بها وتعزيز رصيدهم المهني من خلالها. وكل هذا يحدث لأن شاباً عراقياً يدرس في بريطانيا، هو أحمد الملاك، قرر أن يبقي على تأريخ العمارة البغدادية بنسخة حديثة ومتجددة. وهذه الخطوة، بحسب رأيي، هي واحدة من فلتات الإبداع العراقي وعبقرية الإصرار على النجاح، ناهيك عن الأرض الصلبة التي أتاحها جيل الروّاد لكي تتحرك عليها الأجيال الأخرى. وبدون ذلك ماكان لأحمد وفريق عمله أن يبرروا إقامة جائزة عالمية بروح عراقية في أرض غريبة.
أحمد الملاك واحمد العزاوي الذي يدرس العمارة في بريطانيا وتراث جميل الذي يدرس في السوربون وأُسيد العيطان منسّق الشرق الأوسط في "تميز" وياسمين صلاح مسؤولة العلاقات العامة في الجائزة التي تضع خطة تسويقها بمنهج علمي حديث، هؤلاء وحدهم من يعمل ليل نهار على إدامة مسيرة العمارة العراقية، ولعلّ زيارتهم لبيت رفعة الجادرجي بعد انتهاء فعاليات الجائزة لهذا العام، هو رسالة ضمنية، لتوكيد هذا التواصل بين الرعيل الأول وآخر الأجيال.
حضرت مناقشات مطوّلة للتصاميم المقدمة في أربع جوائز، وركزت كثيراً في جائزة رفعة الجادرجي، سرني فوز تصميم بولوني، وتذكرت تلك اللحظة الحاسمة، التي أثر فيها الفنانون البولونيون في مسيرة التشكيل العراقي في أربعينات القرن الماضي. توقفت كثيراً أمام تصميم العراقيات مروى الدبوني ونور مكية وسالي جمال، الذي بدا لي تصميماً بروح محلية ولمسة عالمية، تجلّت أهميته في تحويل آثار التخريب الإرهابي، الذي شهدته مدينة الموصل القديمة إلى استخدام وظيفي مناسب، ويؤدي وظيفة جمالية عميقة المعنى، فيها روح نبذ الخراب وصناعة الجمال لدى هؤلاء المعماريات المبدعات، واللائي أسسن مكتبهن المشترك في خطوة غير مسبوقة في تأريخ العمارة الشرق أوسطية في أقل تقدير.
بحسب ظنّي، فإن مبادرة "جائزة تميّز" هي تعبير عن قدرة الفرد العراقي فيما لو أتيح له فرصة العمل، فإن معجزات كثيرة ستحدث أمامنا.
أحمد الملاك وفريقه، علامة من العلامات المضيئة ليس في نهاية النفق، وإنما في منتصفه، لكي يمر تأريخ العمارة العراقية بأمان، ويبقى الدليل الوحيد على المدنية بمعناها أسلوب حياة ونمط عيش.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

وجهة نظر: كيف يمكن للسرد أن يحدد الواقع؟

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram