خلقت التيارات والجماعات الثقافية منذ عشرينيات القرن الماضي أثراً إيجاباً على المشهد الثقافي والفني العراقي آنذاك، ولم يكُن تأثيره مُنحسراًعلى الثقافة فحسب، بل كانت هذه الجماعات عضوية، فعالة ومؤثرة بالمدينة اجتماعياً وسياسياً، لتلعب الدور الابرز في قي
خلقت التيارات والجماعات الثقافية منذ عشرينيات القرن الماضي أثراً إيجاباً على المشهد الثقافي والفني العراقي آنذاك، ولم يكُن تأثيره مُنحسراًعلى الثقافة فحسب، بل كانت هذه الجماعات عضوية، فعالة ومؤثرة بالمدينة اجتماعياً وسياسياً، لتلعب الدور الابرز في قيادة المشهد الحيوي في المُدن التي تُخلق وتُشكّل بها...
وجود الجماعات والمنتديات الثقافية تعبير عن فعالية الحياة الثقافية في المدينة، وعن جدّة حراكها في الاجتماع الثقافي والسياسي، حيث يذكر الناقد علي حسن الفواز خلال حديثه عن هذه الموضوعة إن"هذه الجماعات وليدة المدينة، وجزء من يومياتها وصراعاتها، ونزوعها الصاخب مُمثلةً تحولاتها الاجتماعية والثقافية."
برزت هذه الجماعات مع نشوء الدولة العراقية في العشرينيات، ورغم هيمنة المظاهر السياسية والحزبية والنقابية، إلّا أنّ الهاجس الثقافي ظل حاضرا بقوة آنذاك يجد الفواز إن" هذا كان مؤشراً لعلاقة الظاهرة السياسية والحزبية في العراق مع الظاهرة الثقافية، فتجمُع عدد من المثقفين في نهاية العشرينيات والذي ضم حسين الرحال ومحمود أحمد السيد وعبد الفتاح إبراهيم وغيرهم في جامع الحيدر خانة كان الشرارة التي أسهمت في تفعيل هذه الظاهرة، وصولا الى التجمعات والاتجاهات والجماعات الفنية والادبية التي نشأت في الاربعينيات والخمسينيات والستينيات، مثل جماعة(أصدقاء الفن) وجماعة مجلة(الفكر الحديث)و(جماعة بغداد للفن الحديث)و(جماعة كركوك)، و(جماعة الوقت الضائع)و(جماعة البعد الواحد) وغيرها."
الجماعات الفنية والثقافية التي ظهرت بعد اربعينيات القرن الماضي حملت معها مخاضاً ثقافياً، وتوجهات ثقافية كان لها الأثر الكبير في تشكيل ملامح المشهد الثقافي العراقي، إلا أن "تصدع الاجتماع الثقافي العراقي وغياب الجماعات الثقافية ليست بعيدة عن ظاهرة الاستبداد السياسي، ولا عن تغوّل ظاهرة العسكرة والمركزة السياسية والأيديولوجية، والتي كانت تنظر بعين الريبة لهذه الجماعات التي لها حمولاتها السياسية الوطنية التقدمية الواضحة." هذا ما يؤكده الفواز حين يتحدث عن انحسار الجماعات الثقافية اليوم، إذ بدأت ظاهرتها بالانحسار بعد الحرب العراقية الايرانية، وتصاعد نزعة الرعب السياسي، واضطهاد المثقفين والقوى التقدمية، فضلا عن بروز ظاهرة(المنفى) الثقافي، حيث نجد كثيرا من مثقفينا – الأدباء والفنانين- قد وجدوا في المهجر ملاذا آمناً، لإقامة فعالياتهم ولقاءاتهم بعيداً عن ذاكرة الجماعة الثقافية والتي لايمكن فصلها عن ذاكرة المكان العراقي وحميميته وأسئلته.
تُعبّر الجماعات عن وضع البلاد الثقافي المُتنامي، فقد تكون كفيلة بجعل التطور الأدبي يكون أسرع مما كانت الأمور تجري بشكلها العام، وهنا يؤكد الشاعر د. خالد علي مصطفى وهو أحد مؤسسي جماعة شعر 69، إن" فائدة الجماعات الثقافية تكمن غالبا في تشجيعها للادب، تجعل من أفراد الجماعة في حالة تمازج فكري يُثير مُخيلة المبدع، فالجماعة هنا يجب أن تؤدي إلى إبداع شخصي للفرد المُنضم لها وإلا فلا فائدة من وجودها، فإتفاق الجماعة على قواعد عامة وأفكار عامة، أما الابداع فلا يمكن أن تتحكم به الجماعة لأنه ذاتي."
بعض الجماعات الثقافية تأسست وتشكلت استناداً إلى العلاقات والصداقات، وتشكل البعض الآخر مُستندة إلى التلاقي الثقافي والفكري لأفرادها، وهذه بدورها لم تبتعد ايضاً عن مبدأ التشكُّل على أساس الصداقات، "فالشيئان مُتلازمان" كما يؤكد مُصطفى قائلاً "أن التقارب الفكري يؤدي الى الصداقات والتزامُل - إن جاز التعبير - وهذين سيؤديان الى إقامة نوع من الانشطة الثقافية الخاصة والعامة."
كذلك يتفق الكاتب والباحث التراثي باسم عبد الحميد حمودي مع د.خالد علي مصطفى في أرائه قائلا إن" تشكّل هذه الجماعات استناداً إلى الصداقة مع وجود التقارب الفكري والثقافي هو أمر ايجابي، فهذه الجماعات نشأت بعيدة عن أجواء الحروب، وتشاطرت المجالات الثقافية والفنية، ووجدت بعضها استناداً لتقارب سياسي، والبعض الآخر لتقارب ثقافي أو الفني، وأخريات استندن إلى مقاربات دينية." ذاكراً من الجماعات الفنية والثقافية جماعة الرواد في الفن التشكيلي، وتلاهم جماعة الفن المعاصر، أما الجماعات الثقافية والتي امتازت بميول يسارية كانت جماعة المرفأ، إضافة لوجود جماعة الرابطة القلمية في النجف والذين جمعوا بين الادب والدين وقابلتهم فيما بعدها جماعة عبقر..
ظهور الجماعات الثقافية يدل على قيمة أدبية واسعة، لها تأثير في الواقع الثقافي بشكل عام، لكن عندما يكون الواقع ضعيفاً كما نشهده اليوم ستبدأ تلك الجماعات بالإنحسار، وهنا يُعلق مُصطفى على سبب غياب الجماعات الثقافية وانحسارها قائلا "أن الواقع الثقافي العراقي مُتنحي عن الواقع الاجتماعي والسياسي لعدم وجود صلات عقلية بين الطرفين لذلك يتنافى الوضع الثقافي عن السياسي ولايوجد مصالحة بينهما وهذا يُشكل أحد أسباب انحسار الجماعات."
صعوبة تشكل الجماعات الثقافية اليوم هي واحدة من هموم المثقف والفنان، وقد يجد البعض العكس، فبعض المثقفين والفنانين يميلون اليوم لفردية النص أو العمل، ويجدون في ذلك اثبات حضورهم بشكل أكبر، التشكيلي عاصم عبد الأمير يجد " مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي شهدت الجماعات الثقافية انحساراً واضحاً، بسبب الفوضى السياسية العارمة التي يواجهها البلد، والتي تنعكس بدورها على المؤسسة الثقافية، لتتحول الأخيرة الى دائرة مثقفين لا اكثر."
المُبرر من تشكّل الجماعات الثقافية وأحد أهم الأسباب لوجود هكذا جماعات، فيقول عبدالأمير " أن تكتل الجماعات بحاجة الى مسوغات موضوعية، ولكن في حال عدم وجود مبرر لتشكل هكذا جماعات فلا حاجة لذلك في مرحلة نجد فيها الناس هائمين بالفوضى اضافة الى انعدام الدعم لكثير من المثقفين والفنانين الذين باتوا يلجأون خارجاً لعرض أعمالهم."
البيئة العراقية إحدى المسببات التي وقفت ضد تشكّل الجماعات الثقافية حيث يصفها عبد الأمير قائلا" البيئة العراقية طاردة للمبدعين إنها بيئة تجذب اللصوص مع الأسف، في خمسينيات القرن الماضي تشكلت الكثير من الجماعات الثقافية بسبب بيئة البلاد ورفاهها الاقتصادي اضافة الى الاستقرار السياسي آنذاك، وهذا ما يؤكد أن الثقافة والفن ينهاران بإنهيار الاقتصاد والسياسة وغياب الانفتاح الاجتماعي."
الشاعر والاكاديمي المسرحي أحمد ضياء يُشير إلى أن غياب اي جماعة ثقافية ليس بالأمر العجائبي فيقول " أن تشكيل جماعة ثقافية من شأنه ان يُشبه اي مشروع آخر يظهر بفعالية واضحة ولمدة معينة ثم يتراجع ويضمحل بعدها، هذا بالضبط ما شهده تشكُّل جماعة الجندول التي لم تستمر سوى أربعة دورات، لتظهر بعدها جماعة ميليشيا الثقافة لتكون الوجه الأكثر دقة للمشروع الثقافي وقد عُرفت محليا وعربيا."
في ظل التطورات الحالية التي نشهدها ومع ازدياد الضخ الثقافي يجد ضياء أن من الطبيعي أن تشهد الجماعات الثقافية انحساراُ إذ يؤكد " إن هذا التطور المشهود للضخ الثقافي اليوم يمنح المثقف قدرة أكبر على الترويج لجانب من أفكاره بدل أن يُشكل جماعة ثقافية، فالهم الاساس لكل مثقف في النهاية هو اثبات وجوده، فثمة تطورات سريعة تكون عندها الجماعة غير قادرة على مواكبتها، وهذا بالضبط ما حصل مع جماعة كركوك التي سرعان ما تفككت لينشغل كل فرد فيها بإشتغالاته الأدبية ومشروعه الخاص."
سُلطة الجماعة، والستراتيجية التي تعمل بها، من شأنها أن تُجرد الفرد المُنظم لها من حريته، وقد تكون تلك إحدى مسببات انحسار الجماعات الثقافية اليوم! بعض المثقفين يجدون أن لكل جماعة ستراتيجية عمل خاصة أحمد ضياء مثلاً يذكر أن" خطاً معيناً ترسمه الجماعة ومن ينضم لها ليس ببعيد عن ستراتيجية عملها."
الواقع الثقافي واقع مُحفز إن جاز التعبير، ويؤدي إلى نوع من الغيرة الايجابية بين أفراد هذا الوسط، هذه بدورها تؤدي إلى وجود إبداع جاد، لهذا فإن الجماعة لا تتحكم بإبداع الفرد، فهي وكما يؤكد د. خالد علي مصطفى " ذات طابع عام تتحكم بآراءنا العامة لا بإبداعنا الذاتي."
وهنا يستذكر مصطفى جماعة شعر 69 التي ضمت كل من الشعراء سامي مهدي، فوزي كريم، وفاضل العزاوي، وخالد علي مصطفى، صدرت هذه الجماعة مجلة شعر 69 مع بيان الجماعة الأول الذي وقع من قبل الشعراء الاربع، وأكد مصطفى أن "الجماعة فتحت أبوابها لكل من يرغب الانضمام لها، ولم تتحكم بنوعية المادة الابداعية وقيمتها واسلوبها للفرد، والدليل الاختلاف الشعري بين افراد الجماعة ذاتها." مؤكداً أن الخلاف كان يكمن بالابداع الذاتي مع وجود افكار عامة يتفق عليها افراد الجماعة.
الثقافة وسلطة الإخضاع شيئان لا يمكن أن يلتقيا، هذا ما يؤكده التشكيلي عاصم عبد الأمير ذاكرا" ليس هنالك مساطر، لكن هنالك رؤية مشتركة، فالمبدأ الاساس من الثقافة هو الحرية، ما لم توفر الجماعة الحرية الكافية للمثقف فلا حاجة لوجودها فالأمر لا يمثل تحزبات سياسية ليتم إلغاء حرية الفرد المثقف."
إن فكرة الجماعة تكونت نتيجة الالتقاء الفكري باعتبار مستوى الوعي المتقدم للفنان والمثقف والذي يميزه كعامل في الحقل الثقافي عن بقية مواطنيه هو من حدد الالتقاء أولا ، ليجد الفنان التشكيلي كريم سعدون سببا منطقياً لإلغاء سلطة الفرد من قبل الجماعة ويقول "يصح القول إن سلطة الجماعة ألغت رأي الفرد ولكن باتفاق الجميع ورضاهم لأن الهدف الأهم من تكوينها هو العمل الجماعي والايمان بفكرة محددة تقودهم الى التأثير الفاعل في المجتمع، إلا أن التجارب التي حصلت في العراق مثلاً -على سبيل المثال - الجماعات الفنية التي ظهرت ألزمت اعضائها بفكر معين أو تطلع فكري شكل إطاراً عاماً يدور العمل في مداره لكنها لم تستطع قسر الفنان للعمل بتقنيات متماثلة توضح تأثير الفنان المؤسس لها إلا في نطاق ضيق وظلت روح الفرد حاضرة في النتاج الفني تقنيا."
حتمت فترة التحولات الكبرى في حياة المجتمعات تأسيس تجمعات تضم مجموعة من العاملين في الحقول الثقافية أدبيا وشعرياً وفنياً فالجماعات تضم رسامين ونحاتين وموسيقيين ومعماريين متفقين فيما بينهم على خطوط عامة تنظم عملهم الفني وتوجهاته التقنية والفكرية، هذه الجماعات أدت وكما أشار سعدون إلى" تفعيل دور جماعي يؤدي الى المساهمة بأن تأخذ الثقافة والنشاط الثقافي دوره في إحداث التغيير في حياة الناس وبناء دور إيجابي للمثقف والفنان على حد سواء وكذلك تهدف الى تطوير الإمكانيات لدى الفنان من خلال الاحتكاك والنقاش المستمر والاتصال بالحراك الذي يجري في العالم ."
إلا أن الحاجة انحسرت لتكوين الجماعات منذ سبعينيات القرن الماضي لأسباب كثيرة وبسب التغييرات الهائلة في العالم لم تعد الحاجة لها ملحة ولا فائدة تذكر من وجودها وكما هو معروف فأن الأهداف السامية خلف هذه التجمعات قد ازاحتها أدوات التواصل الحديثة اليوم.
وحين نتحدث اليوم عن هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها على الاجتماع الثقافي، فإننا سنجد انفسنا أمام وجود ايهامي للجماعة الافتراضية التي يرتبط نشوءها مع هذه الوسائل، ومع قدرتها على صياغة نوع من التواصل البعيد عن المكان، والقريب من فكرة (مقبرة طشاري) كما تسميه انعام كجه جي، ليؤكد لنا الناقد علي حسن الفواز قائلا " يجد الابناء والمثقفون والحالمون ملاذهم في العالم الافتراضي الذي أحكم الطوق على المكان، ووضع الجميع أمام لعبة الذاكرة والحوارات التي بات البعض يسميها ب(الكروبات) وكأنها الوليد الفنطازي للجماعات القديمة التي ألفت المكان المقهى، والرصيف والكاليري والضفاف وغيرها من الأمكنة التي ضاعت مع الاستبداد ومع رعب العولمة وتقاناتها التعويضية ومنافيها البعيدة."