TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في مشاغل الوقت الحر للكاتب

في مشاغل الوقت الحر للكاتب

نشر في: 31 أكتوبر, 2017: 09:01 م

الكاتب ووقته الحر؟ هل يملك الكاتب وقتاً حراً مثل بقية الناس؟
كل من جرّب الكتابة يعرف، حتى أولئك الذين وضعوا نظاماً يومياً لهم للكتابة، سيفاجئون أنفسهم، بأن الكتاب الذي يعملون عليه، خصوصاً إذا كان رواية، سيظل يلاحقهم باليقظة والنوم، يزورهم حتى في أحلامهم، ربما طوّر بعضهم ستراتيجية خاصة به لتجنب ذلك، فإنهم سيكتشفون أن شخصياتهم تلك ستصاحبهم حتى في ساعات وحدتهم، دون أن يعني ذلك تقديم شكوى من قبلهم، على العكس، أنهم يفعلون ذلك بطواعية، لا يتمنون لأنفسهم الإنتهاء من العمل قريباً. يخطئ من يظن، أن الكتّاب وهم يفعلون ذلك، تعبيراً عن لذة الكتابة، كلا، الأمر أبعد من ذلك.
أعتقد إن الأمر له علاقة بالخوف،و الشعور بالوحدة أكثر، حتى إذا إستدعى ذلك التضحية بإمتلاك وقت حر. نعم، أنه الخوف من فراغ قادم، من أن يجلس المرء وحيداً، بلا رفقة أو صديق، أن يخسر كل ما جمعه المرء في كل الوقت هذا، كل ما ظن، أنه كنز غير قابل للفقدان. كم جلس المرء في غرفته وحيداً؟ سنتين؟ ثلاث سنوات؟ لا يهم الوقت الذي استغرقته كتابة رواية؛ في كل الحالات، وحتى إذا بدا الأمر من الناحية النظرية، أن الكاتب الذي جلس إلى طاولة الكتابة، وأغلق الباب عليه، جلس وحيداً، إلا أن جلسات الوحدة تلك، هي من الناحية العملية، محاولة لكسب صداقات جديدة، معارف جدد، زوار جدد، من كل الأجناس والألوان، والأعمار، شيوخ وشباب، سود وبيض، صفر وحمر، إناث وذكور، حيوانات ونباتات، وكثيراً ما تحضر مدن بقضها وقضيها، غابات وبساتين، أنهار وجبال، وديان وسهول، كل ما له علاقة بحياة، كل ذلك يأتي إلى غرفة الكاتب، من غير المهم، حجم الغرفة أو مساحتها، علوها أو نقاء هوائها، المهم أن حياة تحضر فيها لا علاقة لها بالحياة التي تجري خارجها، وهذا ما عرفه الكاتب، منذ أن قرر بالجلوس أمام طاولة الكتابة، لا يهم العدة التي هيأها لنفسه، أوراق وأقلام، أقلام بكل أنواعها، أو الوسيلة التي سيعمل عليها، الكتابة بخط اليد، التي جربها الكتّاب قديماً، وما يزال يجربها البعض، ربما لتصور "رومانتيكي" للكتابة وعلاقة خط اليد بذلك، اليوم عدد كبير من الكتّاب، خصوصاً أولئك الذين جربوا الكتابة على آلة الطابعة، تضرب أصابعهم على مفاتيح حروف الكومبيوتر، تبحلق عيونهم عميقاً في عمق المونيتور، كل كلمة تظهر على الشاشة، هي بداية صداقة لا يُعرف، الزمن الذي ستمتد عليه؛ مع الوقت، كلما إستيقظ المرء صباحاً، كلما أنجز طقس إستعداده للدخول إلى مكتبه، كلما عرف أنه سيدخل إلى عرينه الخاص به، وبطواعية، ليبدأ بعد قليل بمصارعة الكلمات، بمصارعة نفسه، لابد أن يتغلب على نفسه، على شعوره بالوحدة هناك، هذا الشعور الذي صحيح أنه سينتهي، وسيصبح ماضي بعد ساعات، لكنه أيضاً، وما أن يستنفذ الوقت الذي كان بحاجة إليه، ما أن تضرب أصابع الكاتب على آخر حرف بتعب، ما أن يبدأ جفنا الكاتب بالسقوط على بعضهما بوهن، ما أن يشعر الكاتب بالإرهاق، حتى يسري في الكاتب في تلك اللحظة بالذات، شعور مألوف يبدأ بالهجوم عليه، يضربه في المرّة هذه في العمق!
أنه أمر غريب، لأن الشعور بالوحدة هذا، ليس بجديد، أنه شعور يأتي كل يوم، يتسلل بهدوء مثل نسمة هواء تدخل نافذة المكتب، لكن، ولأن الكاتب يعرف، إنه حتى الآن، صحيح إنه كان يشعر بالوحدة بعد أنجاز عمله اليومي (بعد كم ساعة؟)، بعد أن يكون تقدّم خطوات بالقصة التي يصر على روايتها، إن عليه أن يتوقف لا محالة بسبب تعب ووهن هجما عليه، إلا أنه من الناحية الأخرى، يعرف، إنه فراغ مؤقت، وحدة عابرة، أنها فقط إستراحة قصيرة على الطريق، وغداً؟ غداً سيكمل الرحلة مع أصدقائه المجهولين. وفقط عندما ينتهي من الكتاب، عندما يخط جملته الأخيرة، ويضع النقطة الأخيرة، حتى يشعر بوحدة رهيبة تهجم عليه، حزن يستحوذ عليه، يصاحبه في كل خطوة سيخطيها بعد الآن.
قديماً ومنذ إنطلاقة الرواية قبل خمسة قرون وحتى بدايات القرن العشرين على أكثر تقدير، واظب الكتّاب على تزيين نهاية كتبهم بوضع كلمة: إنتهت! ربما أرادوا منح أنفسهم الشعور، أن العمل أُنجز، من الأفضل طوي صفحته، مثلما يطوي المرء صفحة كتاب، لكن إلى أي مدى صحت كلمة "إنتهى"؟ هل هي كلمة "حقيقية" أم كلمة "تزويقية" وحسب؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram