قال عنها الناقد فاضل ثامر (إنها راهبة النقد العربي لاجتهادها في كتاباتها ولأن لها خطها النقدي الواضح والمميز والمنفتح الذي يوازن بين الأكاديمي وغير الأكاديمي وينتصر للإنسان والجمال) تلك هي الناقدة د. نادية هناوي التي أخذ اسمها يسطع في المشهد ال
قال عنها الناقد فاضل ثامر (إنها راهبة النقد العربي لاجتهادها في كتاباتها ولأن لها خطها النقدي الواضح والمميز والمنفتح الذي يوازن بين الأكاديمي وغير الأكاديمي وينتصر للإنسان والجمال) تلك هي الناقدة د. نادية هناوي التي أخذ اسمها يسطع في المشهد النقدي العراقي ويزداد ظهوراً وانتشاراً باتساع الممارسات النقدية وثرائها وتنوعها، وقد تجاوزت الحدود المحلية إلى الساحة النقدية العربية، فكان لها مشاركاتها في مؤتمرات وحلقات درس ومهرجانات في عدة بلدان عربية أو بنشر الأبحاث والدراسات والمقالات في كبرى مجلاتها ودورياتها الثقافية.
كان الانطلاق من الوسط الأكاديمي تدريساً أو إشرافاً على رسائل واطاريح وحلقات دراسية فهي أستاذة في قسم اللغة العربية، كلية التربيةـ الجامعة المستنصرية؛ لكن الوسط الأكاديمي بحدوده المعروفة المتوفرة، لم يستوعب كامل جدِّها واجتهادها ومحصلاتها المعرفية، لذلك ارتادت الوسط الثقافي خارج أسواره، وتحديدا المشهد النقدي تثري ميدانه بعطائها المتميز وجهدها الدؤوب ،وعبر أكثر من عقد من السنين؛ أتحفت الساحة الثقافية بدراسات وأبحاث ومقالات وكتب تنظيرا وتطبيقا متوغلة في تشعبات المشهد الإبداعي العراقي وتفصيلاته، لتنهض ببسالة واضحة وهمة عالية بمسؤولية التصدي لأهم ظواهره وانجازاته وأسمائه.
وفي الآونة الأخيرة تكللت جهودها القيمة باختيارها عضواً في المجلس الاستشاري، لمركز الفارابي للدراسات الاورواسيوية في جامعة اسطنبول، لتشارك بفكرها الغزير من منصات الجامعة العريقة. وهي خطوة فرح بها وباركها كل حريص على الثقافة العراقية، وتوافقا مع هذا الحدث قمنا بإجراء هذا اللقاء مع الدكتورة نادية هناوي...
* د. نادية نبدأ من المحطة الأخيرة، أي اختيارك عضواً في المجلس الاستشاري في جامعة اسطنبول ..حدثيني عن ذلك؟
- بلغت باختياري لعضوية المجلس الاستشاري في كتاب بهذا الخصوص موجه إليَّ من رئيس المركز في عام 2016 والمركز مؤسسة بحثية تابعة لجامعة اسطنبول ولها هيئتان استشارية وتضم مفكرين وباحثين وأساتذة بدرجة البروفيسورية من تركيا وكازاخستان وإيران وبتخصصات مختلفة وهيئة إدارية تضم أساتذة أكاديميين من مختلف الجامعات التركية. ويقدم المركز فعاليات أسبوعية وشهرية وسنوية على شكل ندوات ومؤتمرات يشارك فيها باحثون متخصصون وشخصيات فكرية معروفة لتقديم محاضرات في قضايا مختلفة اجتماعية وفلسفية وسياسية ولغوية وانثروبولوجية واعلامية.
وخلال حضوري اجتماع المجلس الاستشاري، أسهمت في مؤتمر أيام الفارابي الثقافي الدولي، الذي نظمه المركز، وقدمت فيه بحثاً عن ابن سينا الذي خصَّه المؤتمر بأحد محاوره، كما أقام المركز لي ندوة خاصة تحدثت فيها عن الرواية العراقية في مرحلتها ما بعد الحداثية؛ راصدة جوانب فنية وسمات موضوعية كانت قد طرأت عليها ممثلة بأعمال روائية مهمة، كما تضمنت المحاضرة تقديم شهادة من قبل الروائي الاستاذ جهاد مجيد تحدث فيهاعن تجربته الروائية.
وعموماً أتابع نشاطات المركز باستمرار وأمده ببعض الرؤى والملاحظات بخصوص كل فعالية يتم تقديمها كما أعمل على رفده ببعض المقترحات وآخرها كان يتعلق بضرورة ايلاء الابداع الأدبي الشعري والسردي العربي الاهتمام وفعلاً تم عقد مؤتمر موسع عن الرواية الفلسطينية حيث استضاف المركز باحثين معروفين في النقد الروائي من فلسطين في مطلع هذا الشهر.
* في كتاباتك النقدية يتجلى اهتمامك بالمناهج والمفاهيم الغربية الحديثة والإفادة منها في معاينة الإبداع الأدبي مع تنوع هذه المناهج والمفاهيم واختلافاتها وكيفية الاستفادة منها.
- ليس للناقد أن يمارس عمله؛ إلا بعد أن يكون قد هضم منهجيات التحليل وعرف مدارسه ووقف على مفاهيم النقد ومصطلحاته وأدرك طبيعة المسالك التي يحويها المنهج داخلياً كان أم خارجيا، سياقيا أم نصيا مع ضرورة المواكبة للتغيرات المنهجية التي تطرأ على عالم النقد بين الفينة والاخرى وأن لا يجازف في الشروع بتطبيق منهج لم يكن قد استوعبه أو عرف متاهاته؛ وإلا فإن الخلط واللبس سيعتري عمله وسيفضي به الى ما نسميه بالعماء النقدي بتعبير بول دي مان. وقد يلقي به في منطقة سمتها الناقدة ليندا هتشيون بالتوريط النقدي. ولكي يكون الناقد في منأى من الخلط المنهجي لا بد له من أن ينتقي المنهج الذي يلائم مادته المقروءة على أساس ما يسميه لوسيان غولدمان البنية الذهنية فالمنهج أداة وليس غاية.. واذا ما أصبح المنهج هو المبتغى؛ فإن ذلك سيدفع بالناقد الى أن يقولب المادة المقروءة بحسب متطلبات هذا المنهج وهذا ما سيضر بالنقد ويجعل التحليل جزافيا خارجا عن مقتضيات النظر النقدي الواعي والعميق. وبعض النصوص قد لا تتكشف جمالياتها الابداعية وامكانيات كاتبها إلا بمزاوجة منهجين وربما أكثر وليس في ذلك مثلبة ما دام المنهج أداة من مجموعة أدوات يستعين بها الناقد في سبيل ممارسة عمله باحتراف وحذاقة.. وشخصياً وجدت في النقد الثقافي معطيات أداتية مهمة تلبي انفتاحية الناقد في النظر ورغبته في التمحيص.
* إن لم تكوني الأولى، فأنت من أوائل نقادنا في الاهتمام وممارسة النقد الثقافي ولك كتاب في ذلك، وثمة سجال في الساحة النقدية بين فريقين أحدهما يتهم هذا النقد بإقصائه النص، فيدعو إلى تركه والعودة إلى التخندق عند النص وفريق آخر، يتخندق عند النقد الثقافي مؤكداً أهميته ، فما قولك في هذه المسألة؟ .
- الحياة تتغير ومقتضيات التجدد والمداومة تتطلب من النقد أن يكون في حالة تحرك مستمر لا يعرف الثبات ولطالما أفادتنا المناهج السياقية في إلتقاط ابداعية النصوص وما يحيط بكاتبها من هول التحديات الواقعية وبما يمكننا من فهم مسارات الشعور السايكولوجي الذي تمخضت عنه والابعاد الفكرية أو الايديولوجية التي تم إسقاطها على تلك النصوص.
أما المناهج النصية فضرورية للتقليل من النزعة السياقية أو امحائها ومحاولة تلمس جماليات النصوص عبر الغور في بنائية النص وتحسس المواطن الشكلية التي انطوت فيه عازلة النص عن كاتبه مهملة خصوصيات الواقع ومخاضاته.
ولقد تبين فيما بعد أن لا المناهج السياقية تخدم نقد النص ولا المناهج النصية تحقق له ذلك لذلك أخذت دعوات الانفتاح بالنص على مختلف التوجهات المعرفية عبر التركيز على القارئ جنباً الى جنب المؤلف والنص وهذا ما أسهم في بزوغ منهجيات انضوت في خانة ما بعد النصية ومنها السيميائية والتفكيكية والدراسات الثقافية ودراسات التابع والنسوية وما بعد الاستعمارية ولقد اقترب النقد بسبب هذا النزوع من العملية الابداعية برمتها ، مفيدا من العلوم الانسانية الاخرى ولا سيما اللغة والدين والاجتماع وعلم النفس والانثربولوجيا والاثنولوجيا والميثولوجيا وغيرها. وما عاد القول بأولوية منهجيات بعينها على غيرها منطقيا ولا مقبولاً اصلاً لأن المسألة رهن بالمادة المقروءة ومديات إبداعها فقد تتطلب منهجاً سياقياً واحداً وقد تقتضي أكثر من منهج سياقي وربما تتطلب منهجا نصيا واخر سياقيا وثالثا ما بعد نصي وهكذا لا تغدو العملية النقدية علما بل أكثر من ذلك انها رؤية فلسفية لا تتجلى للناقد الا ساعة قراءاته للنصوص وتفقده لابعاد شكلها وموضوعها. ومن هنا يغدو النقد الثقافي ميداناً رحباً لكشف جماليات النصوص من خلال الاشتغال على اضمارية الأنساق وتأويلاتها أو بالتركيز على تفكيك التمركزات ومركزة المقصيات بحثا عن قضايا مسكوت عنها أو مستورة ضمن رؤية انفتاحية مكاشفاتية وبمحمولات تخالف السائد والمعتاد.
* هل أفادتك الأكاديمية في ممارساتك النقدية .. ومن يتصدر المشهد النقدي العراقي .. الأكاديميون أم نقاد الوسط الثقافي اللااكاديميون؟
- بالتأكيد كان لنزوعي نحو الاكاديمية في البحث والتقصي أثره الكبير في بلورة رؤاي النقدية وكان الناقد الكبير الدكتور علي جواد الطاهر قد أشار الى أن تشكيل الذهنية النقدية يقوم على عاملين أو شرطين هما الموهبة الفطرية والاكتساب المعرفي وهكذا لا يغدو الاتصاف بالنقد أمرا هينا لأنه يتطلب اكتسابا ثقافياً واسعاً يدرب الذهن ويوسع الإفهام ويربي الذائقة ويقوي الملاحظة ويسرع البديهة وبما يسهم حتماً وبُداً في تطوير الأساليب وتعزيز التعابير بالمداومة غير المنقطعة على القراءة والبحث والدرس سعياً نحو التحليل والتفسير والتقويم والوصف والاستبيان..الخ
وإننا إذ نشهد اليوم كيف أن آفاق النقد الأدبي قد اتسعت بالتحديدات العلمية والتخصصية الدقيقة والصارمة فان الاكتساب سيغدو هو المؤهل الناجع الذي يدعمه الاستعداد الداخلي بالدُربة والمِران وقد يضفي عليه النزوع الذاتي للنقد حدساً فائقاً وتذوقاً راقياً وبما يصنع ناقداً بالمواصفات المطلوبة وبالأطر المنصوص عليها في أدبيات البحث وسياقات الدرس النقدي المعاصر..
أما بخصوص تصدر المشهدية النقدية فاعتقد ان المشهد بخير وهو دائب الحركة والتجدد يسهم فيه الاكاديميون وغير الاكاديميين بهمة واضحة .. ونأمل أن يستمر هذا الحال ويتطور أكثر في المستقبل.
* أين تضعين النقدية العراقية الراهنة بين عامة النقدية العربية؟
- قد لا اغالي اذا قلت أن النقدية العراقية تقف في المقدمة عربياً، وتظل مسألة الجزم ليست دقيقة كونها لا ترتكز على احصاء دقيق فلسنا مطلعين على النتاج العربي كله وما زال التحجيم الثقافي الذي تعيشه منافذ التواصل معنا عبر المجلات والصحف محدودا لا يرتقي الى مستوى الشعور بالمسؤولية في انعاش الواقع النقدي وتوكيد التواصل بين النقاد العرب.
* ما المعوقات والتحديات التي تحيق بالنقد العراقي ؟
- عربياً اجد أن أهم المعوقات صعوبة النشر للبحوث الاكاديمية والترويج للدراسات النقدية فطبيعة بعض المجلات ليست ثقافية بحتة بل هي منوعة اقرب الى الفنية والاجتماعية منها الى الثقافة والفكر ولذلك يضطر الناقد مثلا الى تقليص مادته النقدية الى ألف وخمسمئة كلمة أو ألفي كلمة كي يتناسب نقده مع مساحة النشر المتاحة في مثل هذه المجلات أما المجلات النقدية والادبية المتخصصة فهي قليلة إن لم نقل نادرة وعادة ما تكون فصلية او نصف سنوية.
أما عراقيا فان ظاهرة التقشف في النفقات قد انعكست في أعمق صورها على المستوى الثقافي فتقلص حجم المجلات وموادها وقللت صفحاتها وصارت الشهرية منها فصلية والفصلية نصف سنوية كما اختزلت المهرجانات والملتقيات وحجمت الفعاليات النقدية وهكذا .. وبالطبع هذا لا ينطبق على الواقع الابداعي الذي يستمر بالعطاء المميز والثري سرداً وشعراً مما يقتضي نقداً يواكبه ويؤدي مسؤوليته تجاهه في التشخيص والتوصيف والتدليل على المواهب والامكانيات لكن التحدي يظل مادياً لا معنوياً وهذا ما يجعل الناقد بين مطرقة الوسيلة وسندان الغاية مكتوف اليدين وقد يطلقهما مرتكناً على ذاته مضحياً بجهده وماله في سبيل اداء دوره النقدي وبهذا يغدو الناقد كالراهب الذي يتعبد في محراب لا يعرفه فيه غير ربه وحده.
* هل ترين النقد ممارسة فنية محضة أم أن له دوراً اجتماعياً أو ثقافياً أو غيرها؟
- إن لدي قناعة لا تتزحزح مفادها أن النقد عبارة عن فاعلية فكرية بغيتها التغيير المجتمعي والاصلاح الفكري وعدم الاستكانة للواقع مع تلازمية القلق بالدأب وهذا ما يجعل للناقد دوراً فاعلاً في التوجيه الانساني والاشاعة لقيم الحق والفضيلة وبما يحصن الذوات وينفعها ويجعل ابناء المجتمع فاعلين ومتطلعين على اختلاف مستوياتهم ومديات تفكيرهم وليس هذا الأمر باليسير ولكنه ممكن ومتاح لا سيما إذا كرس له النقاد اهتمامهم وجعلوه في صلب مهامهم وفي الأولوية من أهدافهم ومبتغياتهم.