ربّما لم يسمع الكثيرون منّا باسم ( إدوارد ويتن Edward Witten ) ، يعد ( ويتن ) ألمع فيزيائيّ نظريّ في وقتنا الحاضر وغالباً مايتمّ وضعه في مصاف آينشتاين ونيوتن ، وتنسّبُ إلى الرجل نظرية ( الأوتار الفائقة Superstrings) التي يرى فيها الكثيرون الدعامة الأساسية التي ستنهض عليها نظرية كلّ شيء - تلك النظرية التي تعد بمثابة حجر الفلاسفة الذي يسعى لبلوغه فيزيائيو زماننا من أجل وضع نظرية تجمع كلّ القوى الكونية الأساسية في إطار نظرية موحّدة .
الغريب في أمر ( ويتن ) هو إنه حصل على شهادته الجامعية الأولية في الأدب واللغويات ، ثمّ درس التأريخ ، وسجّل بعدها في مقرّر دراسيّ لعلم الاقتصاد ؛ وهنا حصلت إنعطافة كبرى في حياته بعدما حصل على منحة دراسية من جامعة برينستون لدراسة الرياضيات التطبيقية والفيزياء النظرية ؛ الأمر الذي قطع ( ويتن ) شوطاً كبيراً في دراسته حتى أصبح عالماً فيزيائياً فريداً ، ولو قرأنا محاورات ( ويتن ) الكثيرة المنشورة على الشبكة العالمية لعددناه فيلسوفاً أو مؤرّخاً للأفكار ؛ إذ تؤكّد حواراته على موضوعات الوعي البشري والجذور الأنطولوجية للمعرفة البشرية بعامة .
هل يعدّ ( ويتن ) مثالاً غريباً بين الفيزيائيين ؟ لاأظنّ ذلك ، ويشهد سجلّ العلماء أسماءً لامعة كانت لها مُساهمات مشهودة في حقل الأدب وتأريخ الأفكار والإنسانيات بعامة .
إنّ الحديث عن ثقافتين متمايزتين : ثقافة علمية وثقافة أدبية هو بعض حديث الزمن الذي مضى جارفاً معه الكثير من مخلّفات الأفكار القديمة المتكلّسة في العقول ، وممّا لاشكّ فيه أنّ الممارسات التعليمية والأعراف المجتمعية السائدة رسّخت كثيراً من تلك الأفكار عبر تقسيم التخصصات الثانوية المدرسية إلى فروع علمية وأدبية ؛ بل مضى العقل المتكلّس لوسم الدراسات الأدبية بأنها خليقة بكلّ من أوتي حظاً كبيراً من القدرة على الحفظ واستظهار المعلومات !! وأنّ الدراسات العلمية مصمّمة لهؤلاء الذين يأنسون للفهم التحليلي والقدرة الرياضياتية المميزة . وهذه مواضعات في عداد الأباطيل الشائعة ، وترى الدراسات الخاصة بسايكولوجيا الإبداع البشريّ أنّ الإبداع في كلّ أشكاله ينبع من منبع واحد هو الشغف ، وأنّ التمايزات النوعية بين شكل الإبداع الأدبيّ بالمقارنة مع نظيره العلميّ ليست سوى أقنعة تخفي وراءها المنبع الذي يتدفّق منه الشغف والرغبة في إثراء المعرفة البشرية .
ثمة توجّه عالمي منذ عقود عديدة لإلغاء التمايزات الكيفية - فضلاً عن الشكلية - بين الثقافة العلمية والأدبية ، ونرى معالم هذا التوجّه في تنويع مقرّرات الدراسة ماقبل الجامعية والجامعية وجعلها تشتمل على باقة منوّعة إختيارية من اللغات والفلسفة والدراسات الاجتماعية ( أنثروبولوجيا ، سوسيولوجيا ، تأريخ العلم وفلسفته ،،،، ) إلى جانب المقررات التخصصية . وهناك جانب عملي يستوجب المعرفة والإطلاع على مجالات معرفية متعددة ؛ إذ أنّ المعضلات المتفاقمة التي يواجهها البشر بلغت حدا كارثيا يتطلّب معرفة معقولة بمسبباتها وطرق معالجتها ( أو التخفيف منها في الأقلّ ) ، وبما أن الفهم يسبق الفعل ؛ فإنّ الإلمام بتأثيرات الإحترار المتفاقم في جوّ الأرض ، مثلاً ، يدفع المرء للإطلاع على الوسائل التي تساعد للحدّ من هذا الإحترار عن طريق تصنيع المزيد من السيارات الكهربائية وتفعيل استخدام الطاقة الشمسية والهيدروجينية .
الثقافة البشرية هي ثقافة واحدة بمظاهر مختلفة إذن ، أمّا اتباع الفصل بين الثقافتين فلن يكون لهم نصيب في المشهد الثقافي العالمي بعد الأن.
ثقافةٌ أم ثقافتان؟
[post-views]
نشر في: 16 ديسمبر, 2017: 09:01 م