بدءاً... أنوي رَسم بعض ملامح تتعّلق بموضوعة تصريف مَهام و قدرات فهم ما نعنيه ب”مُتعة التخلّي عن الطموح”وصِفات مَن يتحلّى بها على نحوِ مُسايرته و طبيعة مساعيه التحريضيّة لمُجاراة نسق و نوع مهارة &
بدءاً... أنوي رَسم بعض ملامح تتعّلق بموضوعة تصريف مَهام و قدرات فهم ما نعنيه ب”مُتعة التخلّي عن الطموح”وصِفات مَن يتحلّى بها على نحوِ مُسايرته و طبيعة مساعيه التحريضيّة لمُجاراة نسق و نوع مهارة الموهبة و جدارة تطلعاتها، فقد كنتُ قد أخترتُ تلك العبارة عنواناً مؤقتاً لمقالي هذا عن جديد منجزات تجريدات الرّسام”اسامة حسن"، لكني عدلّتُ عن ذلك تلاشياً قصديّاً سنجد دواعي تبريراته بين ثنايا هذا التقييم العام والخاص لتجربة هذا الفنّان”بكالوريوس فنون جميلة / بغداد”والذي تأخرتُ عن- قصدٍ و رصدٍ - في الكتابة عنه طوال سنوات خلت
شاهدتُ الكثير من اعماله و تشّيؤاته التشخيصيّة بهاجس التعبير المحض و صدق خلجات التعبير عن ذاته و نقاء روحه وما يعتمل فيها، عبر جملة من تدّفقات حيّة، لم تصل حدودها بالقدر الذي يوازِ حجم الهم و شساعة أفق ذلك الحَلم اللوّني الذي يبتغيه"اسامة"في مجمل معارضه الشخصية والجماعية في كل من بغداد ودمشق/ أبو ظبي / حلب/ وبيروت، فضلاً عن مشاركته في معرض مشترك مع عددٍ من الفنّانين العراقيين والامريكان في"متحف ديلوري/ سان فرنسيكو"، وحتى في مُتممات ذلك المعرض المشترك الذي أقيم على قاعة حوار للفنون ببغداد في العام/ 2012 مع الرسّامين زياد جسّام/ حيدر صدام / ومراد إبراهيم، فقد أختلف النسق الخاص به على نحوٍ مغايرٍ من حيث ثراء الرؤيا وطبيعة الخِبرة والجهد المحكوم بعوامل عديدة، أهلّتهُ منذ وقت مبكرٍ نيل الجائرة الاولى لمسابقة الفنّان الرائد الراحل"جميل حمودي"ثم بعدها الحصول على الجائزة الثانيّة في مسابقة السفارة الفرنسية ببغداد، فضلاً عن تقيمات من الصليب الأحمر الدولي ودرع مهرجان السينما الثالث وغيرها، ولعل أبرز تلك العوامل تلقائيّة هذا الرسّام المقرونة بنوعٍ من الخجل أو عدم الجديّة التي تتوازى مع ما كُنا نروم تشخيصه بخصوص الطموح -هنا- للحدّ الذي يتحايّث مع وحشيّة وشراسة تَضخُمّات الكثير من الذوات المتعلقة بعوالمها المُصابة بداء ذلك النوع من الطموح المَرضي، فمَهما حاولت تلك الذوات التخفّي و الإنضواء تحت مَخابىء مختلف أنواع الأقنعة، فإنها مكشوفة و معروفة،لا محال.
حقيقة الرغبات المتنكرة
يبدو أن الشغف بالتطرّف في عموم مجريات التفكير والتعبيرعن الفن، كما في السياسة، لا يعدو أن يكون رغبة مُتنكّرة في ثوب الموت كما يُلّمح الى ذلك الروائي التشيكي الكبير"ميلان كونديرا"، من هنا تتجلّى قدرات الحَلم على حل و فض النزاع المتشابك ما بين الاثنين"الموت و الحَلم"ويكون للفن نصيب ووصف و ترصيف للكثير من قدرات الفنّان وتجلّيات عشقه للحياة والحبّ - معاً- كما نلّمس ونتحسس في مجموعة"اسامة حسن"الأخيرة بتجريداته الواعيّة لأهمية تحقيق بعض تصوّراته و خصوصيات ذاته عبر بوابات ذلك الحلم، ليس من حيث كونه إبلاغاً- نعم ربما يكون إبلاغاً مُرّمزاً أو ملغزّاً بوحدات ومصفوفات جماليّة بارعة في تكثيف لغة التفاؤل والسعي لخلق سعادة مفتعلة - ربما- أو بمثاية وسيلة دفاعيّة مؤقتة تحمي وتحافظ على كمية ذلك النشاط الجمالي عبر تمرير لعبة لا تَحسن لعبها غير أفانين الخيال، وهذه اللعبة هي بحدّ ذاتها قيمة، من باب كون الحلم دليلاً على قدرة التخيّل، ومسببّات الحلم بعالم يحدث، ومن حيث كونه حاجة مُلّحة،بل تُعدّ من أعمق حاجات الإنسان في الكثير الظروف و الأحوال.
يرسم "اسامة" دفقات وعي حلمي متواصل مع أنساق ذاته و تبِعات حقيقة تجربته التي أضحت بعيدة من الآن، فضلاً عن جدارة تسليمه - مجدداً- بان التجريد"Abstration" لا يعدو أن يكون إتمامات لعمليات ذهنيّة أو عقليّة تتوالي على نحت وخلق مفاهيم و رؤى مجردة، وبغض النظر عن تسميّات مَن يستخدم هذه اللفظة الأجنبية كمرادفٍ للسهو والنسيان أو الذهول وشرود البال، حتى إنها أصبحت تُستخدم للدلالة والترميز على تنظيف"الحاسبة الالكترونيّة"في لغة قاموس ما أصطلح عليه-اليوم- ب"عصر المعلومات"و تداعيات ما نحن فيه من عجائب و غرائب تفوق الخيال المتوقع.
بيت من الزجاج
تسمو استعاراتِ السعيٍ لتجريد الشيء من محتوياته وخواصه المتداولة والمعروفة بغية شدة الانتباه وتحقيق تركيز معين في ذات هدف فني- جمالي، حَفل يتمتع بقدرات تأهيلية قادرة على توريد فعل أو مجموعة أفعال من شأنها أن تكون بديلاً موضوعياً خالصاً لقيمة ذلك الشيء وطبيعة ما تحقق من جملة علاقات متوافدة شاء لها أن تتقاطّر وتنمو على السطح التصويري للوحة وعالمها الخاص بحسب تجربة هذا الفنّان أو ذاك، وإذ يتجلّى ذلك واضحاً في ثنيات وتوريدات "اسامة" القادرة على تثبيت ركائز عمقها وسطوة تفرّدها فوق أرضيات ما قدّم و أشتغل طوال سنوات عمر اسهاماته الواثقة و الممتدة في نسيج واقع المنجز التشكيلي الراهن في العراق، لتنعش هذه التدفقات الحسيّة طراوة اللغة البصريّة بهاجسٍ من تتابع وحالات نموٍ وتعريش تساوقت لتعيش في عوالم و تحسسات لوحات "اسامة حسن" في سياق فهم تحليلي لمعنى فكرة تجسيد نوعاً من شفافية خاصة به، تكاد أن تقترب من ضفاف أمنية كثيراً ما راودت مخيلة"اندريه بروتون"واضع بيانات السورياليّة و مؤسسها مفادها يقول:"أود لو أعيش في بيتٍ من زجاج، لا شيء فيه سرّ من الاسرار، وأنه مفتتح على جميع الاقطار والجهات".
تتضح لوامح وخصوصيات ما جاءت تنشده أعمال"اسامة حسن"- بهذا الصدد القصدي في سك سيرة التجريد على هذا المنوال- من خلال استثماره لعذوبة اللوّن وسعادة تماهيه مع نهايات الخطوط المفترضة والمفتوحة على فضاءات نوعٍ من علاقاتٍ و تداخلات انسيابيّة بحتة، جرت تتوق لخلق تحفيزاتٍ من حركات مِرنة و طيّعة، برعت تنزوي في ركن معينٍ من مساحة اللوحة لتزيد من اثر الفعل النفسي والدرامي في عموم الجو العام لذلك العمل، أو أن تتوّحد اللوحة لوحدها في جلالة هدوء تام يشي بصدى صمت بليغ كالذي يرد بحسب وصف احد الشعراء الأوربيّين له حين قال :"الصمت المأهول بالأصوات".
عادةً ما ترتهن ذائقة"اسامة"لهمس ذلك الاصرار الساند و المنصاع لرفيف روح التسامح التوادد والتنامي المحسوس من خلال توسيع سمة انفتاح اللوحة الواحدة على نفسها لجعلها تتحدى وتقاوم اي جمودٍ أو تثاقل قد يحدّ أو يعيق من حقيقة جمالها الواثق الذي يليق بعذوبة ذلك الوضوح العذب والشفّاف الذي يغمر و يُكلّل فيه الفنّان أنساق رحلته مع اللوّن"اكريلك واحبار، غالباً"، فيما تنعم أجواء اعماله هذه - نهاية مطاف هذا السعي الملزم بالتجريب، أكثر من اي شيء آخر- بانحياز أشبه بالتام لفهم معنى أن يكون الفن متعة مدعمة بفوران فرح خفي تزيد من قوة وفتنة غموضه قدرة الفنّان على الحفاظ على طاقته التعبيرية الكامنة حتى في أشد حالات الانغمار بممارسة التجريد والتغريب لحقيقة وأهواء أفكاره وتطلعات رؤاه التداخلية ما بين واقع صعب و مرير، وما بين عَالم حلمٍ متخيلٍ، خالٍ من أية نواقص أو أية عيوب، يشفع بالدفاع عن أهمية وجود الفن بالحياة، كما في تمريرات"اسامة حسن"في “ألبوم"اعماله هذا.
بعض هامش... توضيح
أجدني أحتمي -هنا- ببعض سطور مكثفة تروم توضيح و فضح علاقة تكاد أن تكون غامضة ما بين سوانح وخواص التقييم و محاولات النقد، و بين ما يفكّر فيه الفنّان في التعبير و توريد أفكاره ونبل رؤاه، تفيد بأن الناقد ليس مُنجّماً، بل مُحللاً لقضايا و جوانب قد تنوء بالكشف عن مكامن تلك الافكار وجس جوهر الموضوع بالدقة المتناهية التي يتصف بها الفنّان المُفكر والساعي لحقيقة ما يعي ويعمل، لذا يلجأ الكاتب - ناقداً كان أم مقيماً للنصوص البصريّة، كما في هذا المقال، مثلاً- الى تعميم تفاصيل قد تتعلّق بالمرور بمرحلة التصوّف أو الشعور بعدم الجدوى، والتفكير بالفناء ثم وصولاً الى كهف العزلة وغيرها من إستجابات و ردود افعال متباينة، نحسها و نتلّمسها تحتمي أو تختبىء - بعضها أو جميعها- تحت رداء الحلم من حيث هو"اي الحلم"بمثابة مصدات و دروع واقية ضد كل وسائل الدفاع عن وجود الفنّان الحتمي في الحياة وخلوده بعد الممات، وما إضاءة نور عنوان مقالنا عن"اسامة حسن"إلأ خُلاصة تأكيد للوجوه الأخرى التي تقنّعت بها حقيقة هذه الاعمال.