اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > "أسْرَع من الخذروف": بسيكولوجيا السرعة

"أسْرَع من الخذروف": بسيكولوجيا السرعة

نشر في: 11 ديسمبر, 2017: 09:01 م

العصر الرقميّ، وزمن السويشال ميديا هو زمن (مديح السرعة). يرتبط الأمر، في النظام الرأسماليّ بموضوع الإنتاجية: القدرة على إنتاج أكبر قدر ممكن من السلع الربحية أو إنتاج أكبر قدر من الشغل المكتبيّ والعلائقيّ بأقصر وقت ممكن، لذا فهي امتداح حصريّ تقريباً (للفتوّة) القادرة عضلياً على ذلك، واستبعادٍ، مُضْمَر أو صريح، لكل فترة عمرية أخرى لا قدرة لها على تحمّل سرعة مثلها. ثم يرتبط بذلك توسُّعاً مديح كلّ سرعة أخرى: اختصار المسافات بأقلّ وقت، حتى لو تطلّب الأمر مغامرات جسدية خطيرة، ثم نشوء أنواع جديدة من الرياضة تقوم على المبدأ نفسه. يظهر في السويشيال ميديا المبدأ في (تصفُّح) أكبر قدر ممكن من المواضيع بأقلّ زمن ممكن، غالباً على حساب التأمُّل الجاد بفحوى هذه المواضيع.
مديح السرعة خلق في العصر الراهن (خرافة السرعة) التي يُقاس الكائن الآدميّ وفقها، فهل جميع الكائنات تمتلك إيقاعاً متسارعاً، وكيف يُفسَّر الكائن صاحب الإيقاع مفرط السرعة، مقابل الآخر بطيء الإيقاع، وهل ثمة مجال حقاً للمفاضلة؟
في الثقافة العربية الكلاسيكية تقرأ في كتاب (مجمع الأمثال) للميدانيّ المثل القائل "أسرع من الخُذْرُوف" الذي يتركّز حصرياً على فكرة الإيقاع السريع، و"الخُذْرُوفُ حجر يثقب وسطه فيجعل فيه خيط يلعب بها الصبيان إذا مدوا الخيط درّ دريراً. قال شاعر يصف الفرس (وكأنهن أجادل وكأنه - خذروف يرمعة بكف غلام). الخَرَّارَةُ هو خُذْرُوف الصِّبِي التي يُدِيرُها، وخَرَّارَةٌ هو حكاية صوته "خِرْخِرْ". انتهى شرح الميداني. وفي لسان العرب الخُذْرُوفُ السريعُ المشي، وقيل السَّريعُ في جَرْيِه، والخُذْرُوفُ عُوَيْدٌ مَشْقُوقٌ في وسطه يُشَدُّ بخيط ويُمَدّ فَيُسْمع له حَنِينٌ، وهو الذي يسمى الخَرَّارة، وتحت مادة رمع أن اليَرْمَع هي الخَرَّارةُ التي يَلْعَبُ بها الصّبيان وهي الخُذْروف، ويُوصَفُ به الفرس لسُرْعَتِه، تقول هو يُخَذْرِفُ بقوائمه. وأنت ترى أن المثل وتفسيره يشير إلى سرعة مفرطة، لا بد ان لها دلالة ما. يتذكر بعضنا أننا كنا نلعب بالخذروف الخشبيّ، وفي العراق يسمى (المِصْراع)، إذا لم تخنّي الذاكرة، وكان خشبياً كمثريّ الشكل.
في التحليل النفسيّ الفرويديّ، قد تشير السرعة إلى هروب الافكار. وقد لوحظ أن الأحلام تمتاز بسرعتها الخارقة، وأن فيها التياثٌ لمفهوم الزمن، رغم أن هناك من لا يوافق على ذلك. لكن عُرِف بين المحللين النفسيين من يقول إن سرعة اللاوعي مماثلة لسرعة سَهْم.
في استخدام أفعالٍ غزلية فرنسية شائعة شعبياً (لأنها ليست عامية بالضرورة وتبدو عادية للوهلة الأولى)، تبدو فكرة السرعة مرتبطة بالغزل والإيروتيكا، مثل يغازل draguer وهو في الأصل يجرف الوحل جرفاً أو يكري مجرى مائياً، والفعل "اصطاد امرأة"chasser وهو في الأصل صاد واصطاد حيواناً عبر مطاردة سريعة، والفعل كَوَّنَ عِلَاقَة غَرَامِيَّة مُؤَقَّتَة مَعَ امرأةflirter الذي يعني في الأصل داعب وتدلّل وأسرف. وأخيرا الفعل يتعرّض لفتاة أو يجري خلفها courir وهو في الأصل يركض، يجري، يعدو، يهرول.
ماهو جوهر دلالة هذه الأفعال؟ جوهرها مفهوم السرعة: الاصطياد عبر المطاردة والجرف والإسراف والركض. كأنها تفترض أن الغواية الجنسية تتطلب السرعة. اللاوعي يدفع المُغازِل لسرعة الفعل قبل الوعي والتفكير. الغواية تشتغل بإيقاع سريع، وكل ذلك لتحقيق المطمور في هذه الأفعال: اقتناص الفعل الجنسيّ.
وفي تقديرنا فأن أخطر تجليات مفهوم (السرعة) يقبع في عملية "التصفُّح" القائمة في لاوعي كثير من مستخدمي السويشيال ميديا العربية، لأنه يستخف أيما استخفاف بعملية القراءة، لهدف ليس من الأهداف المشار إليها أعلاه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram