لم تعد المخاطر التي تهدد العملية التربوية في ذي قار مقتصرة على قلة الأبنية المدرسية وعدم توفر الكوادر التعليمية والتدريسية الكافية وتأخر توزيع الكتب والقرطاسية، بل وصل الامر الى انتقال جملة من الأمراض الاجتماعية الى البيئة المدرسية، كتفاقم مشكلة العن
لم تعد المخاطر التي تهدد العملية التربوية في ذي قار مقتصرة على قلة الأبنية المدرسية وعدم توفر الكوادر التعليمية والتدريسية الكافية وتأخر توزيع الكتب والقرطاسية، بل وصل الامر الى انتقال جملة من الأمراض الاجتماعية الى البيئة المدرسية، كتفاقم مشكلة العنف المفرط وتنمّر الطلبة الأقوياء على أقرانهم والتسرب من مقاعد الدراسة، وظهور حالات تعاطي الأقراص المخدّرة والتحرّش الجنسي، في ظل ضعف دور المرشد التربوي وافتقار نحو 1600 مدرسة في ذي قار للمرشدين التربويين الذين تتكرس مهمتهم في مساعدة الطلبة على معالجة مشاكلهم الدراسية والاجتماعية، فضلاً عن غياب المتابعة من أولياء أمور الطلبة.
طرائق تدريس مُلائية وتسرّب غير مسبوق
عن واقع حال المدارس في محافظة ذي قار، تحدث الناشط المدني المهتم بالشؤون التربوية، فلاح نوري لـ(المدى) قائلاً: إنّ ما مر به العراق من حروب وحصار وتداعيات سياسية، أحدث تغييرات اجتماعية كبيرة نجم عنها تجاوز على الكثير من القيم والثوابت الاجتماعية السائدة في المجتمع. مشيراً الى: أنّ تفاقم الازمات الاقتصادية والامنية والسياسية والاجتماعية انعكست سلباً على سلوكيات الطلبة وأدت الى بروز مشاكل ومظاهر جديدة لم تعهدها المدارس من قبل. موضحاً أنّها تمثّلت ببروز حالات العنف المفرط بين الطلبة والتجاوز على المعلمين وادارات المدارس والغشّ في الامتحانات باستخدام الوسائل الالكترونية واجهزة الاتصال الحديثة وتعاطي الحبوب المخدّرة والتسرب من المدارس بأعداد كبيرة، فضلاً عن ظهور حالات محدودة من التحرّش الجنسي.
وحذّر نوري من انتقال الأمراض الاجتماعية إلى البيئة المدرسية، مبيناً أنّ المدارس وبعد أن كانت بيئة سليمة لتشذيب وتقويم السلوك باتت اليوم حاضنة للكثير من الأمراض الاجتماعية. عازياً ذلك الى عدم اهتمام ادارات المدارس بالجوانب التربوية نتيجة انشغالها بالعديد من المشاكل الادارية، كنقص الملاكات التدريسية ونقص الكتب المنهجية والوسائل التعليمية والدوام الثلاثي والرباعي، واكتظاظ الصفوف الدراسية وغيرها من المشاكل المتعلقة بالأبنية المدرسية التي تعاني التقادم.
ولفت نوري الى: تزامن انشغال ادارات المدارس والملاكات التعليمية واهمالها للمشاكل التي تواجه الطلبة مع انحسار الدور التربوي للأسرة التي انشغلت هي الأخرى في الشؤون الحياتية والمكابدات اليومية الناجمة عن الأزمات الاقتصادية. مؤكداً: انخفاض المستوى العلمي للطلبة نتيجة اعتماد طرائق تدريس غير متطوّرة تعتمد التلقين وهي أشبه ما تكون بالطريقة المُلائيّة القديمة التي تتسبّب بمشاكل تدريسية للطلبة، مشدداً الى الحاجة اعتماد طرائق تدريس تفاعلية تنمّي قدرات الطلبة وتفعّل دورهم ومشاركاتهم أثناء الدرس.
وكشف الناشط المدني عن حالات تسرب كبيرة للطلبة في مراحل ما بعد الدراسة الابتدائية، مؤكداً تراجع في اعداد الطلبة الملتحقين بالدراستين المتوسطة والإعدادية، مبيناً: أنّ معدلات التحاق طلبة المدارس الابتدائية بالدراسة المتوسطة بلغت 40 بالمئة فقط من اعداد الطلبة بالمحافظة، في حين بلغت معدلات التحاقهم في المدارس الاعدادية 25 بالمئة. مشيراً الى: أنّ ذلك يؤشر ارتفاعاً غير مسبوق في حالات التسرب من مقاعد الدراسة، وهو ما يتعارض مع اعتبار التعليم عاملا أساسياً لتقدّم المجتمع وحق تكفلهُ الدولة. مشدداً: على ضرورة تفعيل الدور التربوي في معالجة مشاكل الطلبة ورفد المدارس بالمرشدين التربويين وسدّ العجز الحاصل في اعدادهم وتوفير البيئة المناسبة لأداء عملهم.
ونوّه نوري الى: أنّ دور المرشد التربوي مهم جداً في تلافي مشاكل الطلبة التي تحصل في المدرسة والأسرة، كون تفاقم تلك المشاكل من شأنه أن يؤثر في العملية التربوية برمّتها ومستقبل الطلبة، فضلاً عن الآثار الاجتماعية. موضحاً: أنّ المعايير الدولية المعتمدة تؤكّد على تخصيص مرشد تربوي واحد لكل 5 طلاب، وذلك لأهميته في بناء الانسان وإرشاد وتوجيه الطلبة وتنقية الأجواء المدرسية وخلق بيئة ملائمة لتلقّي المعارف والعلوم.
انتحار الطلبة ودور المرشد التربوي
وفي ما يخص انتشار بعض الظواهر الغريبة عن البيئة التربوية، قالت رئيس الهيئة الإدارية لمركز تمكين للمشاركة والمساواة، علياء الشويلي لـ(المدى): خلال ندوة نظمها المركز على قاعة نقابة المعلمين لبحث سبل تحسين واقع التوجيه والارشاد التربوي في المدارس الثانوية: إنّ دور المرشد التربوي جداً مهم في العملية التربوية، وضعف هذا الدور يختزل العملية التربوية ويجعلها تقتصر على التلقين وتدريس المواد المنهجية فقط من دون الاهتمام بالجوانب التربوية والإسهام في تقويم سلوك الطلبة ومعالجة المشاكل التي تواجههم والتي قد يؤدي تفاقمها الى تسربهم من مقاعد الدراسة وضياع مستقبلهم. مبينة: أنّ تفاقم المشاكل في المدارس وانتقال الأمراض الاجتماعية الى البيئة المدرسية وغياب دور المرشد التربوي وتجاهل الدروس الترفيهية كالرياضة والرسم والنشيد، جعل من المدارس بيئة غير جاذبة للطلبة، وأدى الى كبت المواهب الفنية والرياضية وعدم تنميتها في المجالات المذكورة.
وأكدت الشويلي: ارتفاع حالات الانتحار بين الطلبة وبروز مشاكل اجتماعية وأخلاقية في المدارس، وهو ما يتطلب تفعيل الدور التربوي من خلال إدارات المدارس والمرشد التربوي والاهتمام بالمشاكل التي تواجه الطلبة والعمل على مساعدتهم في تجاوزها وتقويم سلوكهم وإرشادهم الى الوجهة الصحيحة.
سبق وأن عزت اللجنة التربوية في مجلس محافظة ذي قار، أسباب ارتفاع حالات الانتحار بين طلبة السادس الاعدادي الى صعوبة الاسئلة وعدم توفر الأجواء المناسبة للامتحانات، وفيما بيّنت أنّ الامتحانات النهائية لأول مرة تُجرى في شهر تموز في ظلِّ ارتفاع غير مسبوق لدرجات الحرارة وانقطاع للتيار الكهربائي.
واسترسلت رئيس الهيئة الادارية لمركز تمكين للمشاركة والمساواة بحديثها: أنّ ثلاثة ارباع مدارس المحافظة تخلو من المرشدين التربويين، إذ لم يُعيّن سوى 417 مرشداً تربوياً في عدد محدود من المدارس الثانوية من اصل 2000 مرشد تحتاجهم مدارس محافظة ذي قار، منوهة الى: أنّ اكثر من 1600 مدرسة ابتدائية وثانوية لم تشمل بخدمات المرشد التربوي. مبينة: أنّ جميع المدارس الابتدائية تخلو من المرشدين التربويين، فضلاً عن 145 مدرسة ثانوية. داعية وزارة التربية الى اعتماد خطة سنويّة أو خمسية لسدّ النقص الحاصل في المرشدين التربويين في مدارس المحافظة.
انتهاك للخصوصية وتجاهل دور الإرشاد
وعن المشاكل التي يواجهها الإرشاد التربوي، بيّن المشرف الاختصاصي في تربية ذي قار د. حسين زغير لـ(المدى): أنّ دور الارشاد التربوي مهم للطالب والمعلم وولي الأمر، وهو يعتمد على وجود مرشد ومسترشد، فإذا وَجد المسترشد مرشداً يطمئن له ويثق به، فإن حل مشكلته يصبح ممكناً. مشيراً الى: أنّ عمل الارشاد التربوي يواجه جملة من المعوقات من بينها عدم توفير غرفة خاصة للمرشد التربوي يتمكن من خلالها بحث المشكلة المطروحة من قبل الطالب في اجواء ملائمة تحافظ على خصوصيته، كما تفتقر المدارس الى الوسائل التوعوية الخاصة بالإرشاد كالملصقات والكراريس. مردفاً: كذلك عدم شمول المرشدين التربويين بالدورات التطويرية التي تساعدهم في تنمية وتطوير قدراتهم والاطلاع على التجارب والطرق الحديثة في مجال معالجة مشاكل الطلبة.
وشدد زغير على أهمية شمول جميع مدارس المحافظة بتعيين مرشدين تربويين من خلال تخصيص درجات وظيفية لهم من التعيينات المخصّصة للمؤسسات التربوية. داعياً الى زيادة اعداد المشرفين الاختصاص في مجال الإرشاد التربوي، مؤكداً وجود نقص كبير في اعدادهم، حيث لا يتوفر سوى 5 مشرفين اختصاص يتابعون عمل المرشدين التربويين.
من جانبه قال رئيس لجنة التربية والتعليم العالي في مجلس محافظة ذي قار د. شهيد احمد حسان الغالبي، لـ(المدى) إنّ الارشاد التربوي مفصل مهم في العملية التربوية، لكن ما لمسناه هو أنّ هناك اهمالاً متعمداً لدور المرشد التربوي من قبل وزارة التربية. مؤكداً، افتقار جميع المدارس الابتدائية وعدد غير قليل من المدارس المتوسطة والثانوية للمرشدين التربويين.
وينوّه الغالبي الى: أنّ المشكلة التي تعانيها مدارس المحافظة في المجال التربوي لا تقتصر على نقص المرشدين التربويين، وإنما تتعدى ذلك الى عدم تعاون إدارات المدارس مع المرشد التربوي في اداء دوره بمعالجة مشاكل الطلبة وارشادهم، مبيناً: أنّ اغلب المدارس لا تخصّص غرفة خاصة للمرشد التربوي ليستقبل فيها الطلبة ويبحث معهم المشاكل الدراسية والاجتماعية التي يعانونها، مشيراً الى: عقد عدد من الندوات وورش العمل لبحث سبل تحسين واقع الاشراف التربوي، وإن هذه الندوات تمخضت عن عدد من التوصيات والمقترحات التي تعمل لجنة التربية والتعليم في مجلس المحافظة على تبنيها وطرحها ضمن خطة عمل لغرض إقرارها من قبل الهيئة العامة
لمجلس المحافظة.
داعياً منظمات المجتمع المدني المهتمة بالشأن التربوي الى عقد لقاءات مباشرة مع المسؤولين المحليين في مديرية التربية والمحافظة وكذلك وزارة التربية ومجلس النواب، لبحث ما توصلت اليه الندوات وورش العمل من نتائج وبحث سبل معالجة المشاكل التربوية.
سبق وأن أشارت لجنة التربية والتعليم العالي في مجلس محافظة ذي قار الى ارتفاع معدلات تسرب الطلبة من مقاعد الدراسة وتفاقم مشكلة الأمّية على خلفية صدور قرار وزاري يقضي بتقليص حصة الطلبة من القرطاسية واقتصار توزيعها على الصفوف الثلاثة الأولى في المدارس الابتدائية، فيما عدّت اللجنة القرار بأنه يشكّل تهديداً لمكاسب التعليم المجاني وإلزاميّة التعليم.
وأعلنت وزارة التربية، أنّ 20 % من الطلبة متسربون من المدارس، مبينة حسب المكتب الاعلامي لوزير التربية، إنّ ظاهرة التسرب، تتنافى مع قانون التعليم الإلزامي، لاسيّما أنه شكّل نسبة 20% على وفق عيّنة الدراسة التي أجرتها وزارة التخطيط”. وبيّنت أنّ “وزارة التربية تسعى الى إعادة التلاميذ المتسربين كافة.
ورقة سياسات عامّة للنقاش
ومن جانبه تبنّى مركز تمكين للمشاركة والمساواة، جملة من التوصيات في مجال تلافي المشاكل الدراسية وتفعيل دور المرشد التربوي لغرض طرحها للنقاش مع الجهات المعنية، وتضمّنت الورقة :اعتماد برامج ارشادية تساعد في معالجة مشكلات الطلبة النفسية والانفعالية والسلوكية والتحصيلية ، وعدم اقتصار عمل المرشد التربوي على الاجراءات الروتينية وتوجيه النصح فقط. اضافة الى التأكيد على زيادة اعداد المرشدين التربويين لغرض شمول جميع المدارس الابتدائية والثانوية بالخدمات الارشادية وفق خطة تتناسب والمخرجات السنوية لخريجي الكليات من قسمي الارشاد النفسي والتوجيه التربوي وقسم العلوم التربوية والنفسية.
كما شدّدت الورقة على اجراء مسح شامل للمتطلبات الارشادية على مستوى مديرية التربية وعلى مستوى كل مدرسة. وتنظيم دورات تدريبية تنشيطية للمرشدين التربويين، لغرض تعزيز خبراتهم في جميع الجوانب العملية والارشادية والوقائية والعلاجية والإنمائية، وللتعرف على كل ما يُستجد في العمل الارشادي. كذلك إلزام المدارس الاهلية بالتقيّد بضوابط تعيين مرشد تربوي في كل مدرسة اهلية. مع زيادة اعداد المشرفين الاختصاص واختيارهم من بين المشرفين التربويين المتميزين.
كذلك اهتمت الورقة بإيفاد عدد من المختصين في الارشاد التربوي الى خارج البلاد لغرض الاطلاع على التجارب الناجحة في مجال الارشاد التربوي .مع متابعة الالتزام بتنفيذ التعليمات الخاصة بالارشاد التربوي ومهام المرشد الصادرة من وزارة التربية والمديرية العامة لتربية ذي قار. والتأكيد على اهمية تفعيل عمل المشرف التربوي من خلال اعتماد التوعية الاعلامية واللقاءات المستمرة بين ادارات المدارس والمرشد التربوي من جهة والطلبة وأولياء أمورهم من جهة أخرى. وتخصيص غرفة خاصة بالمرشد التربوي لتمكينه من تحقيق جلسات الارشاد الفردي، ورفع مستوى ادائه وإحساسه بالمسؤولية تجاه العمل. مع التأكيد على تقوية الروابط بين الادارة والهيئة التدريسية والطلبة واولياء أمورهم، لتمتين أواصر الثقة المتبادلة والتفهم المشترك لطبيعة عمل المشرف التربوي في معالجة المشاكل المدرسية بالتعاون مع أسر الطلبة.
وكانت منظمات مجتمعية في ذي قار، أشرّت ارتفاع تسرب الطلبة من المدارس وذلك بسبب زيادة معدلات الفقر في المحافظة، وفيما أشارت الى تبني حملة مدافعة لدراسة الظاهرة ميدانياً في 10 مدارس بالمحافظة، اكدت عقد ندوات للمختصين بهذا الشأن، ورفع توصياتها الى ادارة المحافظة ومجلس المحافظة ومديرية التربية وإدارات المدارس.
وتضم مدارس محافظة ذي قار نحو 600 ألف تلميذ وطالب، يتوزعون على مختلف المراحل الدراسية (رياض الأطفال، ابتدائية، متوسطة، اعدادية، ثانوية، معاهد معلمين وتعليم مهني)، في حين تضم المحافظة نحو (1137) بناية مدرسية تداوم فيها أكثر من 2000 مدرسة أو معهد، معظمها بدوام ثنائي أو ثلاثي وبعضها بدوام رباعي والكثير منها يعاني التقادم.