في غاليري "همِنْـغويْ" Hemingway، في ضاحيةٍ من ضواحي مدينة أكسفورد، يُقام معرضٌ للفنان التشكيلي حيدر (عراقي مقيم في فرنسا منذ 1976). استجبتُ لدعوة الافتتاح مع بضعة أصدقاء. كان أول المساء ممطراً ولكن بعذوبة، والضاحية التي دخلناها معتمة ولكن بشفافية؛ تسمحُ لسحر الجادّات الرطبة المُحلّاتِ بورق الخريف، وملامحِ البيوت الخفيضةِ، والأسيجةِ النباتية، والأشجار، بأن يُرخي من صياغتنا اللندنية المتوترة. ما من ركنٍ يوحي بفاعلية فنية في هذه الناحية التي تشبه قطةً منطويةً داخل فروها الدافئ. ثم اهتدينا إلى نوافذ مضاءة، وكأنها تطل من لوحة كلاسيكية، تتزاحم فيها الأوجهُ، والأذرعُ، وكؤوسُ النبيذ، وما يفلتُ من لغطِ الحديث.كان الـغاليري في ثلاث قاعات، تتوسط إحداها مائدةٌ مستطيلة كريمةٌ في مازتها وشرابها. وعلى الجدران تتوزع لوحات حيدر؛ بالغة الأناقة في حوارها مع بالغي الأناقة، من سيداتٍ وسادة أوساط أكسفورد. في مستوى أخفض، تتوزع أعمال سيراميك منسجمة مع اللوحات، لفنان انكليزي مشارك يُدعى "أندرو هازيلدِن"، يستحق حديثاً لوحده.
حيدر يفضل لوحتَه أن تظلَّ بحجم تنصرفُ له العين بيسر، وتُحيطُ بتفاصيلها المرئية، دون الذهاب إلى ما وراء الإطار للإجتهاد والتأويل في الدلالة. إنه حريص على التشكيل البصري، على أن لا يحاصر اللونَ ويتفوق عليه. في اللون يقع الفنانُ حيدر على ضالته. ولذلك تجد مساحات اللون، بالرغم من استراحتها الظاهرة، مُنشغلةُ أبداً بعناصرها الكثيرة التي ولّدتها. اللونُ دائماً وليدُ خلطة من مواد خام ليس من السهل اكتشاف مصادرها. ولكي يُذكّر حيدر عينَ المشاهد بذلك يترك خلطةَ اللون، لا اللون، بما تنطوي عليه من شوائبَ ونسيجٍ وخشونةٍ، ملءَ البصر. لونٌ خشنٌ ما من ملاسة فيه، حتى لو ابتعدتْ العينُ عن اللوحة بمقدار.
حيدر ولد في مدينة الشطرة، ونشأ في مدينة الناصرية، جنوبي العراق. وبالرغم من أنها تقع على نهر الفرات، إلا أن سِمتَها الغالبة ترابية. السومريون كانوا هناك، ينعمون بالماء من النهر الخالد، ولكنهم ما إن يغادرون النهر مسافةً قليلة، حتى يُعانون من الجفاف الذي تُعلن عنه عظامُ الموتى من الانسان والحيوان. فهل لوحة حيدر، إذن، وليدة ذاكرة أم مخيلة، وقد وضعها على الأغلب في منفاه خارجَ وطنه، ومدينته؟طفولة حيدر وصباه ينعمان بفضيلةٍ كان يتمتع بها البيت في مدن الجنوب؛ هي شيوعُ التشكيل بحركة تكويناته الناشطة، وشيوع اللون الذي لا تُطفأ إضاءته. هذا التشكيل واللون تجدهما في البيبان والشبابيك، وتجدهما أكثر في نسيج البسط، في شراشف الأسرّة وأغطيتها، وثياب النساء. في المنفى يستعيد الفنان، والكاتب أيضاً، مادتَه الخام من أيام طفولته وصباه. يستعيدها وكأنها لا تنتسب إلى الذاكرة، لأنها أعمق بدرجات من فعل التذكر الظاهر لسنوات الشباب.
في أعمالِ حيدر الفنية المبكرة (غير متوفرة في هذا العرض) ينشط فعل التذكر الظاهر، الذي يرجع لسنوات الشباب في بغداد. ولذلك تقع على ردود الأفعال الكابية الكسيرة والمباشرة لسنوات الاضطهاد، تحت سلطة دكتاتورية الحزب الواحد، ولا تكاد تتضح ملامحٌ من المادة الخام التي تعود إلى أيام الطفولة والصبا المبكرين، والتي سنراها بارزة في الأعمال التالية (وفي هذا المعرض خاصة). فيها نرى أن رؤيا حيدر الفنية في معظم أعماله المتأخرة إنما هي وليدة فركِ الصدأ عن سطح تلك الذاكرة. منها تنبعثُ حبيباتُ الألوان الخشنة، شظايا الخشب، الخرزُ الملون، الأسلاكُ، والمسامير، والخيوطُ المُلتاثةُ بالتراب والطين. وكذلك أُطرُ البيبان والنوافذ، وشراشيبُ البُسط، وتلك الأشكال التي تنطوي على رُقىً ورموز. إنها أشياء الحياة التي ينعم بها البصرُ، والبصيرةُ، الطفوليان.
هذه الخلطة في التشكيل واللون لا تترك اللوحة صامتة. بالرغم من أنها توهم بذلك، حين يُنظر إليها عن مَبعدة. وهذه الخلطة أيضاً لا تترك اللوحةَ دون فعل درامي، بالرغم من أنها توهم بذلك. فبالرغم من السكينةِ الظاهرة ثمة حركةٌ دائبةٌ في الخطوط والكتل المتعارضة مع بعض، وفي الحضور اللوني البارد أو الحار، لا فرق، تتضح مع اقتراب العين.
ثمة معرض آخر في معهد العالم العربي، باريس (28 من هذا الشهر) يشارك فيه حيدر كلاً من الشعراء أدونيس وفينوس خوري غاتا في "حوار الرسم والشعر".
في أكسفورد: حيدر وذاكرة الطفولة
[post-views]
نشر في: 10 ديسمبر, 2017: 09:01 م