TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بوّابُ عمارةٍ إسمه فيتغنشتاين

بوّابُ عمارةٍ إسمه فيتغنشتاين

نشر في: 2 ديسمبر, 2017: 09:01 م

تثير سيرة حياة الفيلسوف النمساوي الأشهر (لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein) الكثير من العجب والدهشة، ليس لكونه أحد أعمدة الفلسفة في القرن العشرين بعد أن أنجز في كتاباته الفلسفية القليلة ثورة فلسفية في ميدان اللغة والفكر وحدود التفكير البشري إلى حدّ دفع الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) ليقول عن فتغنشتاين بأنه (أعظم فيلسوف حيّ قابله في حياته) ؛ إنّما يكمن العجب في تفاصيل صغيرة في حياة الرجل الذي كانت حياته أقرب إلى لوحة غرائبية حافلة بالعجائب والفنتازيات التي تعدّ جنوناً مطبقاً بالنسبة لآخرين إعتادوا الحياة الراكدة والسكونية والاستسلام لمتطلبات العيش التقليدية.
نتفحص سيرة هذا النمساوي المتمرد الذي وُلِدَ في فينّا عام 1889 لأسرة بالغة الثراء، وتوفّى في بريطانيا عام 1951 وتنوعت أعماله بين مجالات : المنطق، فلسفة الريّاضيّات، فلسفة العقل، الفلسفة الّلغويّة، درس هندسة الطائرات في جامعة مانشستر أولاً ثمّ إنتقل لدراسة الفلسفة في جامعة كامبردج الّتي صار أستاذاً فيها حتّى إستقال عام 1947 ليتفرغ لكتابة أعماله في عزلةٍ ريفيّة تامّة على السّاحل الغربيّ لإيرلندا. ومن غرائب حياته أنه مارس الكثير من الأعمال المختلفة ؛ فقد عمل بوّاباً، و بستانيا في حديقة أحد الأديرة، ومهندساً معماريّاً بارعاً صمّم منزلاً لأخته أعتُبِر تحفة معماريّة، كما مارس التعليم في إحدى القرى النمساويّة إلى جانب عمله ممرّضاً في بريطانيا خلال الحرب العالميّة الثّانية).
لو تأملنا في هذه السيرة الموجزة لرأيناها أقرب إلى لوحة بانورامية تعجّ بشتى الفعاليات والأهواء المتناقضة : فلسفة وفنّ وعلم وهندسة وتمريض وعمارة ومنطق وتعليم ورياضيات وكتابة،،، الخ ؛ لكني سأشير لتفصيل صغير واحد أراه عظيم الدلالة في حياة فيتغنشتاين ؛ فقد تخلّى طواعية عن إرثه الضخم من تركة أبيه (الذي كان قطب صناعة الفولاذ في أوروبا) وتنازل عنه تنازلاً نهائياً لأخته الكبرى، ثم راح يعمل بوّاباً في عمارة !!.
لطالما إستوقفتني هذه الواقعة ورأيتني أطيلُ التأمل فيها وأقلّب الأمر من وجوه عدّة : ماالذي دفع فيتغنشتاين ليفعل هذا؟ هل هي رواقية متأصّلة في روحه؟ هل كان يشعر بالإشمئزاز من هذا العالم ولم يكن يطيق التعامل مع المال وبخاصة بعد أن رأى كيف يخضع الناس لجبروت المال ويستحيلون عبيداً أذلّاء أمام سطوته؟ هل كان سلوك فيتغنشتاين ينمّ عن إضطراب سايكولوجيّ وبخاصة أنّ ثلاثة من أخوته لجأوا للموت إنتحاراً رغم مواهبهم الثمينة وبخاصة في مجال العزف على البيانو؟ هل أراد فيتغنشتاين الثأر من سطوة المال فعمل على إذلاله (مثلما أذلّ المالُ الناسَ) عن طريق التبرّع به وتحطيم القيود التي تشدّه إليه؟
إنّ حقيقة الحياة التي عاشها فيتغنشتاين، والمعالم البانورامية التي إنطوت عليها تلك الحياة الغرائبية، إنّما تدفعنا للاقتناع بأنّ الرجل فعل هذا الأمر طلباً لنمط من أنماط (اللذة الرواقية) ونشداناً للسكينة التي هي بعض مفاعيل تلك اللذة في الروح البشرية النبيلة التي تدرك مسرّات تلك اللذة ومُكابداتها.
قد نتساءل كيف كانت صورة فيتغنشتاين ستتشكّل في أذهاننا لو قيّض له أن يواصل عمل أبيه في إدارة مصانع الفولاذ العملاقة؟ ومن يحبّه الناس أكثر من سواه : فيتغنشتاين الفيلسوف – البواب الذي تنازل عن ثروته كلها، أم فيتغنشتاين الصناعي الثري؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram