لا أدري كيف بدأت تشغلني هذه الفكرة. لم أكن معنياً بالمدن ولا بهندسة أو معمار البيوت. وفجأة رأيتني منشغلاً بالعمارات ذوات الطوابق و بيوت الطين والأكواخ الصفيح والصرائف. ربما دفعني لذلك اهتمامي بتاريخ العراق القديم وأنني كنتُ افكر بما أُكتُشِفَ من مبان وأرى الأسس تخرج من التراب الى الفضاء وضوء الشمس مرةً أخرى.
كيف كان سكَن الإنسان في العراق قبل خمسة آلاف سنة ؟ أعرف بعضاً من هذا. أعرف أكثر قصور الحكم والمعابد. أمام أسلافي الفقراء فما أكاد أعرفُ سكنهم. بيوت من طين صغيرة وكوى كنت أراها الى ما بعد الحرب العالمية الثانية ومجيء ألوف الفلاحين الهاربين من الاقطاع وصعوبة العيش الى بغداد. تاهوا باسمالهم بين دروبها حتى وجدوا فسحاً خالية فوجدوا بها مستقراً وأن كان قلقاً وأنهم مهددون، يشعرون بأن الارض ليست لهم. كانت بيوت المدينة خليطاً بين بيوت من طين مهذبة قليلاً وبين أكواخ هي جملونات لكن جدرانها من طين، وبين بيوت صغيرة، كتل من طين بعضها فوق بعض لتكون حيطان ولا أقول جدران، هم يدوفون التراب بالماء ويناولونها شبه كرات لترصف واحدةً فوق أخرى. السقوف كان يخلط طينها الناعم بالتبن ليختمر ولكي لا يتشقق. هي بيوت الفلاحين الهاربين من الاقطاع والذين وجدوا ملاذاً في المدينة. إذاً أنا بهذا قريبٌ مما كان في العراق القديم، فيما يسمى "الحضارات" الأولى. تلك التجمعات الحضرية التي شهدها التاريخ . نعم انا أمام حيطان طين وكوى، دوائر صغيرة في الحائط للضوء وللتنفس كما لخروج الدخان. هم أحفاد أولئك ويحملون تراثهم. ولأن الحياة مستقرة والمواسم معروفة والناس فقراء، فقد ارتضوا بذلك ووجدوه بديلاً عن العراء. ولكننا في بغداد بعد الحرب العالمية الثانية وزمن التموين وعقابيل الحرب والبطالة وأولاء الحفاة الفقراء يترجون أن يجدوا خبزاً بعد أن وجدوا خلاصاً. تكوموا بتجمعات شبيهة بتلك التي كانت لأجدادهم في سالف العصور.
لكن في بغداد الجديدة كانت قصور من طابوق من طابقين في الوزيرية، والكرادة، كرادة مريم، والكاظمية، والاعظمية، وبعض الأثرياء رغبوا بجمال النهر أو بالعزلة فكانت لهم بيوت قصور على دجلة. وفي بغداد أيضاً ليست بعيدة عن هذه بيوت من لِبن وأعمدة خشب، لكنها حجر لا حجرة واحدة هذه المرة ولها خارطة : ممر وباحة حولها حجرات . هذا كان في أكثر مناطق بغداد، الفضل ، والاعظمية، وكرادة الكسرة، والكرخ من العطيفية الى ما يسمى اليوم بالعلاوي. وتقف المدينة بعد قليل عند حدودها فلا تتجاوز ما يسمى اليوم بالمسرح الوطني. وطبعاً يقابل هذا ناس افندية ببزات حديثة، بطرابيش أو سداير أو بلاهما وناس بملابس محلية ولكن جيدة ولها أناقتها، الجراوية والصاية والحزام العريض من جلد او من نسيج مشتد. وهنالك ايضا من هم بدشداشة بالكاد باقية وبغترة ما استساغت العقال وهي بهذا البؤس في المدينة. ونسوة بعباءات صوف عليهن الوشم في الوجه واليدين وربما في أماكن اخرى من اجسادهن.
في هذا الجو نجد أدباً قريباً من الحديث وقصائد وراءها مدارس وتجمعات علم في المساجد وتجد غناءً شعبياً من أرث المدينة، مقاماتها، وغناءً ريفياً قديماً جلبوه معهم من تلك الأعماق البعيدة. يتعاطف معهم وينقل أحزانهم في المتاهات الجديدة وهناك التي تبيع، تموت كدحاً لتعيش. وهناك بعيداً عنها وفي أحد الأزقة البغي التي مبكراً عرفت الحياة والتقفت المعنى !
ومثل هذه المفارقات في الطعام، فهناك مطاعم وناس محظوظون يختارون لحوماً وأطباقاً وفاكهة و ناس تعيش على الباقلاء والخضار قريب الشبه بالعشب، وربما بعض من الجبن اذا أُتيح وعلى الدبس والتمر المنقذ من جوع كما ذلك المنقذ من ضلال ... وناس يحملون باقات الفجل أو باقات من البصل الاخضر وسواهما مما تنبت الأرض مما يألفونه ومما قد يحنون الى أنواعه البرية الأكثر حدةً والتي لا تباع فهي على حافات الجدول أو تحت النخيل في الظلال.
هذا العالم يبدو منتظماً، يبدو له خارطة وتقسيم طبقي أو حضاري او ما شئت من اسماء، البؤس منها أقرب الجميع.
هذه الرؤية المختلطة التي شغلتني امتداداتها هذه الليلة أوقفتني أمام مسألة : كيف هي مسيرة المدينة العاصمة اليوم والى أين تتجه وقد اختلطت مستويات البيوت ومستويات العيش ومستويات الثقافة والتحضر ولا أحد يتحكم بها أو يوجد نظاماً؟ أيضاً من يتحكم بفوضى السوق وفوضى الأدب والكتابات وفوضى الصحف واختلاط مستوياتها والى أين؟ أيضا أي نظام، أية قوة يمكن بعد أن تسيطر على هذا الانفلات الأخلاقي الذي ما عاد يحكمه خوف الله أو خوف القانون أو خوف العشيرة؟ خوف الله قلَّ إذ قلَّ الإيمان والقانون بلا سلطة منفذة وهو رخو يمالئ ، فلا يخيف والعشيرة، الناس تفرقوا في المدينة وما عادوا في تجمعات يعرفوا واحدهم الآخر وأين يمضي ومتى يعود ..
هذا بسيط وقد يبدو كلام محترف يريد إشغال الناس بمسألة ما. لكن الذي قبض على جمجمتي وخضّني : أين في هذه الفوضى واللانظام والمجهول أجد المعنى؟ أنا الفرد الذي يستثيره الصوت والطريق والانعطافة والحجرة الخربة والمنارة التي تقف اقصر ، أذلّ ، أقل شأناً وهيبة من العمارة التي تعالت طوابقها عليها وكسرت نفوذها وسلطانها القديم ؟ فقراء نحن لا ندري ما نفعل فهذه البيانات العالية متعددة الطوابق لا علاقة حب بينها ولا علاقة جمالية وسكانها خليط. هي فوضى أخرى لتخريب العقل. يا أنا الذي ألف اليتم والغربة وخسران الكثير والذي بلا سند، من جاءني بهذه الأفكار فأدخلني معمعةً لا تحسم أمرها تعويذة ولا آية ولا صراخ بشر يضربون صدورهم بأقسى ما يستطيعون يريدون دفع ظلم قديم وحيف، يريدون حياة نظيفة وصواب وجود وهي غايات ستظل غائبة عصوراً أخرى، أخرى والى الابد!
هذا ليس تاريخ بلد هو تأريخي الشخصي ومتاهتي. هو تاريخ من يقرؤنني مكتئبين من تعب لا معنى له ومن عالمهم الغامض على الخارطة. سواي أنشغل بماكنة عاطلة، أنا رحت أكتب أشعاراً وأكتب قصاصات وأنام لا أدري ما سيكون في العالم غداً. قد أستيقظ على أنقاض أيام مكومة في باب بيتي وأنا أدور في فراغ لا يؤدي الى خلاص أو مثوى. اقرأ صيحاتي الخرساء عتيقة معلقة على الحائط أمامي. وكل تلك الأحلام التي ولدت إجهاضاً، يابسة كأن من زمان. وكما غريق خارج من ظلام العصور أدبُّ في بيتي وأطل برأسي من باب موارب، لأقول لأطفالي صباح الخير، لكن بصوت مبحوح غير متأكد من وجود خير في مدينة التيه التي استدارت تنظر، كما تنتظر نداءً، للصحراء. ادارت وجهها عن العالم. إختنقت بصيحتي وأنا أقول " دعوا الأمل، أيها الداخلون هنا، فليس هنا إلا أن تموتوا ولا ترون ما أتيتم من أجله .. "