تشفع مجموعة النُصب والأعمال التي أنجزها النحّات " صالح الكناني- تولد ديالى/1972 " على طول وعرض فترات الإعلان عن صدق نواياه ونصاعة موهبته، قبل وبعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة ببغداد 1994-93، في فهم خواص الحقيقة التي تقف عليه مهماته التنفيذيّة والإبداعيّة لمجمل ما قدّم من منجزات أتسمت بالوضوح ومستلزمات البوح لما هو مفهوم وموّجه نحو أكـثـر عدد ممكن من المشاهدين والمتفاعلين مع شساعة الرقعة التي تتطلبها غايات هذا الفن الواضح والقريب من الذائقة الجمعيّة وتصوّرات ذلك الجمهور العريض، الذي تستهدفه أعمال " الكناني" وتستفتي مفاهيمه وتستحث مشاعره وسيول عواطفه على هذا النحو والمستوى التعبيري والحسي و منوال مناسيب لحظاته الإنفعاليّة والتشخيصيّة التي كثيراً ما يلجأ إليها هذا الفنّان في توريد أعماله .
تتقابل كل هذه الأنساق في مرآيا أعمال "صالح " سعياً في إنتاج ذاته التائقة والمخلصة لمعنى الخصوبة الروحية والليونة السارية في مفاصل عموم ما يُخطط ويُنفذ من سلسلة أشكال وتوضيحات صور لوجوه وأجساد منحوتة بعناية و إنسيابيّة تتعشّق مع وحدات " بانروميّة " تتحدّ مع بعضها لتشكّل وحدة الموضوع الذي يتخذ -عادة- حالات ومواقف وطنيّة وإنسانيّة بحتة جرى رصفها وتنيسقها على نحو متنوّع من حيث قدرة الفنّان على توريد تلك الأفكار ومن ثم تحويلها إلى حالات محاكاة و توضيحات عيانيّة ما بين العمل والمُشاهد، ولعل ذلك يتضح بشكل تتابعي و يومي من خلال - مثلاً- نصب " الفلّاح " الذي يتوسط ساحة الأمين في مدينة " بعقوبة " أو في عمل نصب " السلام " في سوريا/ 2007ومشاركته في مسابقة " المرأة العراقيّة " في العام/2010 كذلك المشاركة بمسابقة نصب " السجين السياسي " و حضوره الواضح في معرض " التعايش معاً " وغيرها من إسهامات في معارض مشتركة في بغداد وعمّان التي شهدت معرضه الشخصي الأول في العام/ 2003، حصوله على المرتبة الثانيّة في مسابقة " نصب العراق "، فيما تعود أسس تلك الإسهامات إلى أثر مشاركاته في مهرجان بابل الدولي منذ عام 1994 ولغاية 2002، وحضوره المتميز في معرض حمل عنوان " فكتور هيجو " في العام/ 1999، ثم اسهاماته في ملتقى بغداد للفن التشكيلي/ 2013والفوز بالمرتبة الثانيّة بمسابقة العراق في النحت، وتوالي مشاركاته في معارض جمعية الفنّانين التشكيليين حتى آخر معارضها في العام/2017 .
صلابة الجذر الرافديني
كان لابد من حتميات هذا المرور الإستذكاري في فحص وتقيم منجزات " صالح هادي علي أحمد الكناني " وثقة التأكيد على صلابة الجذر الرافديني القديم وما نتج عنه وما لحقه على توالي مرّ العصور وصولاً للحاضر الراهن و الذي ينحت فيه ويحفر بروح فاحصة لما يناسب عمق وصراحة أفكاره من جداريات و أعمال تتلاقى في أتونه ومعبره الكثير من التفاعل والأنفعالات التي تلازمه بسبب ظروف العراق الحالية و الإستثنائية بشكل عام ومحافظته " ديالى" ومدينته " بعقوبة " التي يعمل فيها تدريسيّا في مديرية التربيّة.
شكل القصد الراصد لطبيعة مفردات الحياة السهلة والبسيطة التي تعيش و تسكن في ذهنه و تتغلغل في وجدانه ملامح من ربوع مدينته و خواطر المدن و تلقائية حياة القرى القريبة منها، فضلاً عن توافد الصور والملاحم التأريخية لحضارة العراق حيزاً واسعاً تمثّل يرفد خصوبة و ليونة أعمال " صالح " وهي تتلاقح و تتنامى على هيئات و خواص " بانوراميّة " تمتد و ترتفع لتشكل أشبه بزقورات و منحوتات جداريّة " ريليف " و أخرى تتشاخص وفق مقدرات الطول و جرأة المدّ والتمهيد لفعل الإستطالة المقصودة التي تهبّ تلك الأشكال و الشخوص والهامات حضوراً ملحميّاً يحفر عليها " الكناني " أو رصف ما يجاورها بحروف أو أشجار نخيل و أغصان وسنابل لتزيد من ثراء خصوبة المشهد العياني عبر إنفتاح العلاقات ما بين تلك الشخوص الآدمية أو الحيوانية وما بين حياة الأرض و الزرع في تداخل حسي و نفسي يندغم فيه الشكل مع جوهر المضمون في إتحاد تفاعلي و إنفعالي تام.
تثق منحوتات هذا الفنان كثيرا بطبيعة و محدوديّة بالمواد التي ينفذ عليه أفكاره سواء أكان مادة " البورك الخام " أو الخشب أو " الفايبر كلاس" لتكدس روح الموضوع الذي يرسم و يخطط بل و يصممّ له -إيضاً- ويلّون جوانب وحواف أشكاله وفق رؤى و إنهماكات تداخليّة لا تخرج عن مرامي و مدارات وعيه التداولي وفهمه التتابعي لقيمة وهيبة و صراحة الفكرة وحيثيات الهدف و طبيعة الموضوع في نهايّة أبعد مقاصده وحدود مراميّه الجماليّة.
الجمال ... وحاجته للحقيقة
ستبقى فكرة أو مفهوم أن " الجمال بحاجة - دائماً- الحقيقة " تفرض نمطاً حراً و مقيّداً في ذات حيثيات وقائع ما يلزم و يحددّ من طبيعة التفاوت الحاصل في أصل مفهوم الجمال العام و ما ينتج عنه من قيم ومعادلات ذلك الجمال الخاص و المحددّ بجملة من خواص وتبعات فكريّة و ثقافيّة و ذوقيّة،من تلك التي ستحددّ مسار و مدارات و توجيه بوصلة إتجاهات القبول أو سواند الرفض و ملكات التأويل، بيد أن مساعي " صالح الكناني " لا تنوي الخروج عن مكان الجمال العام و حقيقة ما يجانب هذا الوضوح الملازم لروحيّة النسق الذي يحتمي فيه ويؤسس عليه نهج قناعاته التي أذكت من مدارك وجوده محافظاً و دقيقاً في فرض هيبة وسطوة حضور الموضوع و جلال الفكرة التي لا تتعدى حدود الفهم الجمالي العام و بخصوصيات فهم وهضم مفردات البيئة الداخليّة والخارجيّة لدواخله .
لعل الولع الضمني بأفق دقة المهارة و حذر التنفيذ و جدارة الحرص المرافق لجوهر مجال التعبير عن الواقع و مرموزات الحضارة القديمة هي الأسس الدافعة إلى تقييد مدياته للحدّ الذي يجعل من نمط أسلوبه واضحاً و صادحاً في مقررات و نواتج هذه التجرية، وحقيقة الإعتراف بطبيعة وسبل الوصول إلى الجمال الذي يبغيه " صالح " المتصالح مع ذاته و بهاء بيئته وتأريخه الشخصي و تساوقه الحضاري مع ما توارثه من آثار و رُقم طينية و ملاحم و رموز سومريّة و بابليّة أو أكديّة ، نخالها تتضافر و تتظاهر كما الثور المجنح - مثلاً- وغيرها لتتماهى و تتغلل في نسيج وبناء وحداته حتى في أشد و أقصى صنوف ميوله وتوجهاته الحداثويّة و تنويراته المعاصرة ، فهو دائم التعبير بالوضوح و محافل البوح عن هويته الوطنيّة ومواقفه الإنسانيّة عموماً.