من يسمح له الظرف ويلتقي بشيوخ يهود قارب بعضهم سن الثمانين، وتلك حقيقة لا يعرفها اليوم، لا العراقيون أنفسهم ولا علماء الاجتماع، بل ولا كل أولئك الذي أطلقوا على أنفسهم خبراء في الشأن العراقي، ولا كل أولئك الذين يتحدثون عن العراق "العظيم"، بمناسبة أو غير مناسبة، سيثبت له، أن اليهود هؤلاء حملوا العراق تحت إبطهم طوال هذه السنوات، هربوه معهم وما زالوا يحتفظون به قبل أي شيء آخر، يعتنون به مثل كنز نادر. العراق الذي يتذكره الشيوخ هؤلاء والذي نقلوا صورته القديمة إلى أبنائهم وكأنهم رحلوا عنه بالأمس، العراق هذا يأتي في حديثهم مثل حلم بعيد غفا معهم في نومهم طوال السنوات هذه يستيقظ مع يقظتهم يومياً وكأنهم يسيرون على خطى موسى الذي ظل يحلم بالأرض الموعودة، حتى عندما أصبح قريباً منها، هو في الأعلى على قمة التل وهي تفترش تحت قدميه في الوادي. "هل ترى تلك الأرض؟ تحتك؟"، سأله الله، "إنها الجنة، يا موسى، لكنك لن تراها، ستموت هنا في القمة"، أية عقوبة تلك التي حصل عليها موسى؟ وكأن أنصاره لاحقاً كُتب عليهم أن يحملوا المصيرين أينما ذهبوا: مصيره هو الذي مات ودُفن خارج الأرض الموعودة، ومصير أجدادهم الذين وطأت أقدامهم الأرض المفترضة التي وعدوا بها. القصص التي يرويها اليهود العراقيون، يدور أغلبها حول "الجنة" المفقودة هناك، كيف أن مجتمعاً اتجه نحو العصرنة ابتعد عن سيطرة رجال الدين، الأمر لا علاقة له بطائفة واحدة بعينها، الدليل على ذلك الصور التي احتفظوا بها وعرضوها كلما سنحت الفرصة، صور قديمة بالأبيض والأسود أخذوها في المدارس العليا والدوائر الحكومية، في الجلسات العائلية والأعراس، خلال التنزه في الحدائق أو على الكورنيش، عند الجلوس في البساتين وتناول "البيك نك Pick Nick"، عند السباحة في دجلة والفرات وممارسة الرياضة، الملابس التي لبسوها، الألوان، الأزياء، تصفيف الشعر، كل ذلك يشير إلى زمن آخر، زمن أقرب للخيال منه للواقع، من ظن في ذلك الوقت أن الصور المأخوذة بين الثلاثينيات والخمسينيات ستكون بالنسبة إليه، عندما يقارنها بالصور الحالية في العراق مثل "ساينس فيكشن" كأنها قادمة من كوكب آخر؟ يسمع المرء أحاديثهم ويقول، الناس هؤلاء هم متحف العراق الذي انتقل في يوم إلى البعيد، العراق القديم لكن الأكثر حداثة من عراق زماننا الحاضر، وهذا ما جعلهم يتحدثون عن الماضي بنوستالجيا الحنين كأنهم يقولون خرب العراق مع خروجنا، لكنهم لا يقولون ذلك عن شماتة، لأنني سبق وأن سمعت الجملة تلك من عراقيين غير يهود في مناسبات عديدة، رددها جدي المفتش في شركة تمور البصرة أيضاً مرات عديدة أمامي وأنا طفل، كأنهم أرادوا أن يقولوا، كم هم آسفون بأنهم لم يكونوا هناك، لربما ساهموا بإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يطبق الخراب، ولكي لا يفهم أحد جملتهم تلك خطأ ويعتقد أنهم يتمنون هذا الخراب للعراق، يضيفون جملة أخرى تشكو الدمار الحالي، "العراق لا يستحق كل هذا الأذى"، قال لي أحد الشيوخ الذين التقيت به سائحاً في برلين، وعرف أنني من العراق، الجملة التي قالها بلهجة بغدادية ما عاد أحد ينطق بها في بغداد اليوم سمعتها أيضاً من رفيقته في الرحلة، صاحبة مطعم عراقي في حارة "شنكن" في تل أبيب، سيدة قاربت الستين من عمرها كان لها أربع سنوات عندما ارتحلت مع عائلتها إلى فلسطين، "وداعتك يا وردة"، قالت هي تلفظ كلمة وردة للتحبب التي نساها الملايين من العراقيين اليوم،"وداعتك لم تكن عندنا مشكلة مع المسلمين في العراق"، بل "المشكلة هي بين اليهود أنفسهم"، الشكوى تلك سمعتها من الشيوخ، حتى أولئك اليهود الذين هاجروا بوقت متأخر في بداية أعوام السبعينيات، أعوام إعدام عدد من اليهود، رددوا الشكوى ذاتها، تحدثوا عن الماضي بشغف كبير بكل ما حوت عليه الحياة هناك من تفاصيل لدرجة أن المرء يتساءل، كيف يمكن للإنسان المحافظة بعد كل هذه السنوات وبعد كل ما جرى من هجرات وحروب ودمار، المحافظة على تفاصيل دقيقة بهذا القدر؟
اليهود هؤلاء الذين يتحدثون عن حياتهم بهذا الشكل من النوستالجيا هم الآخرون أٌقتلعوا من جذورهم مثلما أُقتلع أجدادهم الأولون قبل ألفي عامين ونُقلوا من أرض كنعان إلى بابل، يهود العراق نُقلوا بالإتجاه المعاكس سواء أُجبروا على ذلك أو فعلوا ذلك طواعية، لا يهم. فهم في النهاية يهود بين بلادين.
يهود بين بلادين
[post-views]
نشر في: 28 نوفمبر, 2017: 09:01 م