شيئاً فشيئاً تعشب الارض ُ صاعدة بالقطار الى "أندمشك" وما كان كله عاقولاً، حلفاء وعوسجاً أمسى حوراً ودفلى، وفي قيعة من القصب تركنا الجنوب براياته السود يدخل في العراق فيصيرُ بصرةً، كربلاء . ولأنَّ الطعام ما يزال يقدم رزاً ولحمَ ضأنٍ كثير فقد تعطلت الأرصفةُ، وابتلع الجائعون الشوارع، قرب محطة السكة الحديد.
تتحدث السماء عن مطر في الغد لكن السحب، الغيوم لم تلح بعدُ.. وفي البعيد، على أجنحة الطير، شمس بيضاء تبرق. مضت ساعة ومضى نصفٌ آخر، ولما نبلغ الاهواز، البارحة كنت أقرأ في كتاب المُلحدين، يقول بأن ابن الرواوندي مواليد الاهواز، من أم يهودية. يكذّب باحثٌ في البصرة، ومثله في بغداد الخبرَ، لكن ابن الجبائي عبد الجبار يؤكدهُ. القطار يخرج من قيعة أخرى، تسلمه الى غابةٍ، يبعد النخلُ وتبتعد البصرةُ، والشمس ما زالت بيضاءَ يهتف في رماحها المؤذّنون.
عمّا يبحثُ بيرقٌ اسودُ في الفضاء ؟ يرحب بنا ! وماذا يجعل العرباتُ أكثر غربةً في البرية التي لا يبين من رملها إلا ما كان دريئةً للريح، منزعاً للماء والملح ؟؟ أتذكرك صامتة يا رابعة النهار، إما يبلغن عندك الشوقُ، كأنك ما بلغت طهرانَ من قبلُ تحملك السعفاتُ خضراً وتستوي بين عينيك الضفاف.
في محطة القطار، باندمشك، حيث كتب حسين مرتضائيان أبكنار" العقرب على أدراج سلّم محطة أندمشك" ترك المسافرون حقائبهم، أخذوا طريقاً، يبساً الى المسجد. النساء، يقطر ماءُ الوضوء من أذرعهن والشعر أشقرُ، تناثر في باحة المصلى، هنَّ يجففنه أمام المري في الهواتف، ومثلما تستعير الملائكُ أكفَّ النبيّين في الدعاء، صرّن يرفعنها، صحائف بيضاً باذخةً، تلامس السماءَ التي يتنزل من زرقتها الكريستال.
هل تكتبُ الصبيَّةُ أوتارها في البيت؟ لا، يقول بائع أقلام الكحل، هنَّ يتبادلنها خلف أسيجة الجلنار مع (البوظا) والسجائر. في الثالثة والنصف ودقائق خمس يصل القطار محطة أراك، أنا تركته هناك ونمت، فكانت طهران فجراً يسيل ومركبات.
خيابونه إنقلاب – نيره سيده – بيوله جوبي- خيابونه فروغي- كوجه بنفشه- بلاك جهار، هذا هو عنوان المنزل الذي أمّنته لنا السيدة الفاضلة "صديقة علوي" هي التي تسكن ميدان هفته تير بطهران الكبيرة. سألتُ صديقي المترجم محمد حزبائي، الذي يسكن الاهواز، عن معنى فُروغِي فقال : تعني: انبثاق النور !! ياه، قلت: وماذا عن "بنفشه" فقال: هو البنفسج. حملني ذلك الى ديوان الشاعرة الفارسية فروغ فرخزاد، الذي قرأت ترجمته عن الشاعرة ليلى العطار، قلت إذن الشاعرة انبثاق النور، والزقاق البنفسج. أي طراوة في اللفظ، أي رقي في تبادل الكلام . في الفارسية حيث كتب سعدي وحافظ والخيام والفردوسي يكثرون من مفردات مثل باغ، عشق، بستان، بقجه، هزار، جلنار... لست شعوبيا والله. لكن النبيذ الذي شربته أعالي الجبل بطهران كان رائعاً.
تستأذنني السيدة "علوي"( 65 سنة) بالقاء حجابها امام زوجتي، وهي تدلنا على مفاصل الشقة ،تقول إنه يضايقها، وهي لا تحسن ارتداءه، تقول بأنها استأجرت الشقة لخالتها، حيث كانت تسكنها وحيدة، ولما توفاها الله آثرت أن تجعلها في مساعدة طالبات الجامعة، اللواتي يقدمن في مدن بعيدة للدراسة في طهران وتردف: للثواب.
"خيابونه فُروغي كوجه بنفشه"
[post-views]
نشر في: 21 نوفمبر, 2017: 09:01 م