TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كأنها صورة بلاد أخرى

كأنها صورة بلاد أخرى

نشر في: 21 نوفمبر, 2017: 09:01 م

أنها لمفارقة غريبة، بأنني لم أتحدث طوال سنوات المنفى الألماني والتي تعدت السبعة والثلاثين عاماً مع أحد عن الحياة اليومية في العراق وتفاصيلها بمثل هذا القدر الذي تحدثت به عنها كلما التقيت بأحد أولئك الشيوخ اليهود الذين وُلدوا في العراق الذي غادروه قبل قرابة سبعة عقود، فحتى الآن وعند وصول قادم جديد من العراق إلى ألمانيا، أحد المعارف أو شخص قريب من العائلة كانت الأحاديث تبدأ وتنتهي بسرعة تدور عادة باتجاه واحد قبل كل شيء: جعل القادم الجديد ينسى بسرعة ما تركه وراءه في بلاده من ألم ومعاناة ومصائب، أحاديث خالية حقيقة من تلك النوستالجيا التي حضرت في الأحاديث التي جرت لي مع هؤلاء الشيوخ. لا أقصد هنا طبعاً الأحاديث العابرة التي تعبر عن تجربة جيدة عاشها أحدهم في العراق كما حدث لي في برلين مع سائق التاكسي الفلسطيني المولود في القدس الشرقية والذي حدثني بشغف عن أيام شبابه قبل ثلاثين سنة عندما عمل في بغداد، كانت القدس الشرقية آنذاك ما تزال من الناحية الشكلية تابعة "إدارياً" للمملكة الأردنية الهاشمية وهذا ما جعله يستطيع السفر إلى هناك، بجواز أردني، وعندما تسللت السياسة قليلاً إلى حديثه انتبه وغيرّ الموضوع، لأن أمراً واحداً أراد أن يحدثني عنه كما قال لي، عن البصرة وبغداد، عن العراقيين، كم هو آسف للموت المجاني الذي يتعرض له الناس هناك، وإذا فكر المرء جيداً فإن مشكلة فلسطين ستبدو لاشيء بالنسبة إليه إزاء ما يحدث في بلاد وادي الرافدين، قال لي وعندما نزلت من السيارة رفض أخذ أجرة التاكسي، كلا، فهذه الأحاديث "الإيجابية" التي تذكر بأيام الخير في العراق، طيبة ناسه وجمال الطبيعة فيه يمكن أن يصادفها المرء عندما يصعد التاكسي في القاهرة أيضاً، خاصة وأن العراق استقبل في أواخر السبعينيات وحتى أواسط الثمانينيات أكثر من 3 ملايين من القوى العاملة المصرية، ولكن ما أقصده هنا هو تلك الأحاديث التي تحوي على تفاصيل أكثر دقة، تفاصيل تذهب إلى العمق، تفاصيل لها علاقة بـ "الزمن الضائع" إذا استعرنا عنوان رواية صديقنا الفرنسي مارسيل بروست، تفاصيل تبدأ من طريقة الاستخدامات اللغوية مروراً بتفاصيل أنواع الأكلات المنسية وانتهاءً بالأغاني القديمة، كل تلك التفاصيل التي نامت في مكان ما من الذاكرة، سائق التاكسي تحدث معي عما عاشه في عراق السبعينيات، فترة خمس سنوات تقريباً، تحدث بلهجته الفلسطينية التي طعّمها ببعض الكلمات العراقية، لكن عندما يلتقي المرء بناس هاجروا طواعية (أو مجبرين)، ناس اكتسبوا هوية جديدة في بلاد أخرى غير تلك البلاد التي وُلدوا فيها ظناً منهم أنهم سيسيرون بهذا الشكل على خطى أجدادهم القدماء الذين وُلدوا قبلهم بألفين عاماً، لكنهم ما أن يصحوا يوماً من خدر الحياة الجديدة، عندما يكبرون، عندما لا يعود فيهم شيئاً من الطفولة يكتشفون أن الهوية القديمة التي أُريد لهم (أو ظنوا هم) نسيانها ما تزال تظهر مثل ضوء فنار بعيد تومض في "ظلمة" حياتهم من حين إلى آخر حسب سنّ الشخص أو حسب شخصية المخاطب أو حسب تجربته الحالية التي يعيشها، وهو هذا الضوء المتسرب إلى حياتهم في البلاد الجديدة ما جعلهم يعيشون في بلادين: في البلاد التي رحلوا أو رُحِلوا إليها، وفي البلاد التي وُلدوا فيها، العراق. ذلك هو الانطباع الذي أحصل عليه كلما التقيت باليهود الذين هاجروا هُجِروا من العراق، بعضهم هاجر قبل نصف قرن، وبعضهم أكثر أو أقل. في كل القصص التي رووها أعادوا لي ذكرى بلاد أُريد لها أن تكون مختلفة، بلاد كان يمكن أن تكون كل شيء بإسثتناء الصورة التي تحولت عليها اليوم: خراب في خراب، كأنها صورة بلاد أخرى غير العراق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram