يقول ابن خلدون في مقتطفات من مقدمته الشهيرة :"عندما تنهار الدول، يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والكذبة، وقارئو الطالع والنازل والمتسيسون والمداحون والهجائون وعابرو السبيل والانتهازيون..تتكشف الاقنعة فيضيع التقدير ويسوء التدبير، ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل، ويشح الأمل وتزداد غربة العاقل، ويصبح الانتماء الى القبيلة أشد إلتصاقا،والى الأوطان ضربا من ضروب الهذيان"..لقد وصف في مقدمته التي لاسبيل الى ذكرالكثير منها هنا مايمر به بلدنا حاليا اذ لايجب أن نكابر ونقول إن بلدنا لم يصل الى حافة الانهيار وكل الدلائل تشير الى ذلك..كثرة المتفيقهون وتحول الصديق الى عدو والعدو الى صديق وعلو صوت الباطل وانخفاض صوت الحق..دلائل لاتحصى تجاوزت حتى قدرة ابن خلدون على تصور حال الدول بعد الانهيار، فقد أشار الى ميل المرء الى الانتماء الى القبيلة والالتصاق بها لكنه ربما لم يتصور ظهور شيوخ عشائر يطلق عليهم (شيوخ 56) –ويقصد بذلك شيوخ النصب والاحتيال الذين ينتحلون صفة شيخ العشيرة للايقاع بالمواطنين والحصول على فصول عشائرية..وأشار الى تحول المواطنين الى مشروع لمهاجرين وتحول الوطن الى محطة سفر، لكنه لم يتخيل أن يهون الوطن الى هذا الحد على ابنائه فلايكتفون بهجرتهم منه بل يبيع بعضهم كل شيء فيه مقابل تحقيق منفعتهم الشخصية..دم أبنائه.. أرضه..آثاره التاريخية..نفطه..شرف نساءه وأعضاء اطفاله..
كان ابن خلدون قد أشار الى انتشار المزايدات على الانتماء ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين، وتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعمالة والخيانة بوصفها دلائل على انهيار البلد..نحن نعيش إذن في بلد منهار أصلا فالكل يزايد على الانتماء وحب الوطن والتمسك بالعقيدة ويصبح الدين لديهم ورقة رابحة متى مااقتربت الانتخابات وقد يضعونه على الرف ويرتدون لباس العلمانية اذا ماإقتضت الحاجة الى ذلك..أما العمالة والخيانة فلاتعدو كونها تهما جاهزة مخبئة في ادراج مغلقة وماأن يبدأ السباق الانتخابي حتى تفتح الادراج وتطلق التهم منها فلايبقى أحد من المتواجدين في الساحة السياسية بريئا أو شريفا..ولكن، على الرغم من ذلك، يعودون من جديد ليعتلوا المناصب ويغرفوا ماطاب لهم من خيرات البلد..
لو كان ابن خلدون موجودا بيننا..ربما كان سيؤلف مقدمة أخرى عن مسؤولين يحتفلون باسبوع النزاهة ويتشدقون بخطابات عن مطاردة الفاسدين والبدء بالحيتان الكبيرة بينما تسبقهم أموالهم المهربة الى الخارج ليلحقوا بها في حال خروجهم من الحلبة وركونهم الى الراحة والاسترخاء في البلدان الاخرى، وآخرون يتباكون على سوء أوضاع النازحين وهم يستقبلون فصل الشتاء بينما يساومون على شراء المناصب بالأموال المخصصة لإعمار المدن ومساعدة النازحين..لو كان ابن خلدون موجودا، ربما كان سيؤلف مجلدات عن تطور وسائل وطرق تدمير الدول من الداخل عبر إبقائها تحت رحمة حكومة تنهش قوتها سيطرة الاحزاب ويزعزع أركانها تغلغل الفساد في جميع مفاصلها..ونفوس أبنائها...
دلائل الانهيار
[post-views]
نشر في: 20 نوفمبر, 2017: 09:01 م