كلما أردت الكتابة عن المشهد الثقافي في البصرة، وجدتني خاضعا للمفاضلة بين ما تقوم به الجهات التقليدية، ذات الصبغة الرسمية(إتحاد الادباء، جمعية التشكيليين، نقابة الفنانين...) وما تقوم بها بعض منظمات المجتمع المدني(منظمة البصرة للثقافة) أنموذجاً، مع يقيني بان الجميع يسعون الى تحقيق غايات نبيلة، أهمها ترميم ما تصدع في الحياة، واشاعة القيم الانسانية، عبر وسائل جمالية هي الشعر والموسيقى والرسم وتنمية الذوق العام.
ولأنَّ الثقافة العراقية إنبنت على وجود المنظات والاتحادات الحكومية، الرسمية وشبه الرسمية من خلال تداخل الايولوجي بالثقافي، فقد بات عمل منظمات المجتمع المدني، -الثقافية منها، تحديداً- أقل شأناً في اعتقاد البعض، أو مريباً عند البعض الآخر ومحل شبهة عند غيرهم، ربما، من الذين يريدون لعجلة الحياة التوقف لصالح أنانيتهم وبغضائهم، وما أنا هنا بمدافع عن الجميع، ولا ينبغي لي، ذلك لأن الانفتاح السياسي في العراق ما ترك لذي فحصٍ وتتبعٍ مساراً واضحاً، إذ اننا نجد بين أصحاب المال والسياسة والدين ومن الصلحاء والفاسدين في الحكومة وخارجها من أسس التجمعات والمنظمات والاتحادات بنية حسنة وبدونها، حتى اختلط الحابل بالنابل في عراق تعمه الفوضى وتتهدم فيه القيم والمثل.
لكن، نقول: جميل جداً، ان يخصص رجل أعمال ما، أي رجل، جزءاً من ماله أو هامش أرباحه لصالح ثقافة مدينته، بلاده. وهو أمر مستحسنٌ في الحياة، مثله مثل أي عمل من أعمال الخير أو ما يقوم به محسن، متدين يبني مسجداً أو مدرسة، مستشفى أو سوقا خيرية. لكن العمل في الثقافة غيرذلك كله، فالمسجد والمدرسة والمستشفى وما شاكل حقول معلومة لدى الجميع، والعمل فيها واضح جداً، غير أن العمل في الثقافة مختلف تماماً، إذ كيف يفهم رجل الأعمال الثقافة، هذا المصطلح الواضح الغامض في آن، وكيف تتحقق الغاية من ذلك؟ هل يستعين برجال الثقافة، هل يعمل على وفق ما يراه ويناسبه ويعتقد به هو، بعيداً عن أصحاب الشأن أنفسهم؟ هذا أمر متروك له، بكل تأكيد، فهو صاحب الفكرة والمال والتنفيذ.
وكانت (منظمة البصرة للثقافة وبشخص رئيسها صادق العلي) رائدة في المضمار هذا، فالرجل محب للمسرح والفنون، تدمي قلبه صورة التراجع والهوان التي بلغتها مدينته، أراد أن يجعل من قناة الثقافة ممراً للبحث عن الحياة الحقيقية، لذا قامت منظمته بجملة فعاليات فنية وثقافية داخل البصرة وخارجها، وكرمت عدداً من الشعراء والفنانين والكتاب في امسيات جميلة، أعادت وعبر مسيرة سنوات ست أو أكثر صورة المدينة كحاضنة للفنون وراعية للمدنية والتحضر، وسط ساحة سياسية واجتماعية ساخنة تعج بالمتناقضات، لكن إصراره تجاوز العقبات تلك، وأصبح للمنظمة صوتها الواضح من خلال ما نلمسه من انشطة كان آخرها تأسيس جائزة سنوية ثمينة باسم(جائزة صادق العلي للابداع).
يتذكر أهل البصرة أن ملعب حي (الجمهورية)- ضاحية شعبية في البصرة- كان من أعمال رجل الأعمال الارمني سركيس كولبنكيان (23 آذار 1869 - 20 تموز 1955) وكذلك كانت قاعة الفن الحديث في الباب الشرقي ببغداد وغيرها من المشاريع الخيرية التي قام بها في العراق وخارجه، وأن مستشفى النقيب بالزبير ما زال يقدم خدماته الى سكان المدينة، وهي من أعمال أسرة النقيب وكذلك فعل ويفعل رجال أعمال في العالم ويمكننا إيراد عشرات الامثلة في ذلك. شخصياً، أقف مع الفكرة القائلة بوجوب وجود أكثر من رجل أعمال الى جانب صادق العلي ومنظمته وأختم قائلاً:”لا تشمت بالنور إذا كنت أدمنت الوقوف في العتمة".
في تحية منظمة البصرة للثقافة
[post-views]
نشر في: 18 نوفمبر, 2017: 09:01 م