حتى نهاية القرن التاسع عشر امتلكت نيويورك فقط مكتبتين: مكتبة آستور التي تأسست عن طريق تبرع بمبلغ 400000 دولار تركه في وصيته جون يعقوب آستور، تاجر فرو ألماني الأصل، كان من أوائل المليارديرات في أميركا.
المكتبة هذه تم افتتاحها أولاً عام 1849، أما المكتبة الثانية فهي مكتبة لينوكس، على اسم مؤسسها جيمس لينوكس، أحد عشاق جمع الكتب، والتي بُنيت عند فيفث أبينو وتحمل اليوم اسم”مجموعة فريك”. لكن بعد عام 1886، سيختلف الأمر، عندما سيوصي السيد صاموئيل تيلدين، والذي كان محامياً مشهوراً وسياسياً، بمبلغ مليونين وأربعمئة ألف دولاراً، لتوظيفه من أجل بناء مكتبة في مدينة نيويورك. وشكراً لجوون بيغلوف، الذي كان محامياً نيويوركياً ومشرفاً على تنفيذ وصية تيلدين، لأنه هو الذي اقترح بضم المكتبتين المذكورتين اللتين كانتا تعانيان حينه أزمة مالية، مع المبلغ الذي تركه تيلدين، من أجل بناء مكتبة نيويورك العامة، والمؤسستين الخيريتين أستور وليونكس.
بهذا الشكل بدأت فكرة المكتبة أولاً في 23 أيار 1895 على أساس أنها مؤسسة خيرية. ليس ذلك وحسب، بل ضمت إليها بعد مرور ست سنوات، أي في عام 1901، مكتبة نيويورك الحرة المتنقلة. الفكرة نمت مثل كرة الثلج، عندما سيقوم السيد أندريه كارنيجي، رجل صناعي كبير لمعامل نسيج، أسكوتلندي الأصل، اشتهر بكونه فاعل خير (في اليونانية القديمة: فيلانتروب)، تبرع في حياته بما مجموعه 350 مليون دولار، حيث تبرع بمبلغ خمسة ملايين ومئتي ألف من الدولارات، لبناء مكتبة موحدة لمدينة نيويورك، على شرط أن تمول المكتبة هذه وتشرف على صيانتها لاحقاً بلدية مدينة نيويورك. الخلاصة: مكتبة نيويورك العامة هي ثمرة عمل مشترك بين إدارة المدينة ومنظمات خيرية، نموذج لما يُطلق عليه في أميركا:”أميركان وي”.
أولاً في أيار 1902 وبعد وضع خطط معمارية متعددة والكشف عن الأرض، وضِع الحجر الأساس لبناء المكتبة في فيفث أفينو في منهاتن بين شارع 40 وشارع 42. في 23 أيار 1911 قص شريط الافتتاح الرئيس الأميركي ويليم هاورد تافت لتفتح بعدها بيوم المكتبة أبوابها للجمهور.
أما تمثال الأسدين المشهورين اللذين تقدما المكتبة، فقد حملا منذ عام 1930 وباقتراح من رئيس بلدية المدينة، صفتي:”صبر”و”شجاعة”. كانت سنوات التشاؤم (ديبريشن ييرس) وحسب اعتقاد رئيس بلدية المدينة بأن هاتين الصفتين هما بالضبط ما يحتاجه المواطنون لتجاوز التشاؤم الكبير”بيغ ديبريشن”الذي لفّ الولايات المتحدة الأميركية في حينه، عندما انهارت البورصة، وأُفلقت المصانع وسُرح العمال وانهار سعر الدولار.
في عام 2007 كُلف المهندس المعماري المشهور نورمان فورستر بإعادة بناء البناية القديمة وتوسيعها، لكن المشروع الذي قدمه المعماري بدعم من سلطات المدينة أُلغي في عام 2014 بعد أن واجه مقاومة كبيرة. الكلفة التقديرية لإعادة البناء كانت ما يعادل ملياردولار، ومن أجل الحصول على ذلك المبلغ، لم يكن كافياً المبلغ الذي ستدفعه المدينة ولا التبرعات التي لا يُعرف كم ستكون، بل كان يجب التخلي عن البناية الرئيسية مع بعض البنايات الأخرى عن طريق بيعها. المشروع تعرض لنقد شديد، في الصحافة ومن قبل الجمهور. أما المثقفون المقيمون في نيويورك فقد وقعوا عريضة ضد خطط البناء الجديدة، من ضمنهم سلمان رشدي وصاحب (النوبل) ماريو بيرغاس يوسا.
وهم على حق. البناية التي تمتد وسط مانهاتن، هي بناية استثنائية في نيويورك، كلها أبهة وفخامة. أنها أكبر مكتبة عامة ليس في الولايات المتحدة الأميركية وحسب، بل في كل أميركا الشمالية، كما أنها ثالث أكبر مكتبة في العالم، بعد مكتبة الكونغرس الأميركي والمكتبة البريطانية. في المجمل تضم المكتبة بكل فروعها نحو 53 مليون عنصر من كتب وأشرطة وخرائط وأفلام. أنها واحة للعلوم والآداب، تُذكر بالكتاب وقيمته، خاصة وأن فيفث أفينو الذي احتلت مساحة كبيرة منه، هو شارع للتبضع. سياح من كل العالم يدخلون إليها يومياً، للتمتع بمنظر بنائها المعماري، صالاتها الداخلية هي جنات أرضية ترتفع عليها رفوف الكتب. كما أنها تمتلك أكبر صالة مطالعة في العالم. ويظل الأجمل فيها، هو مدخلها المزين بالهلال الأخضر (الإسلام) الذي ارتفع عند الزاوية اليسرى في أعلى السقف، ثم الشمعدان (اليهودي)، الذي استقر في الوسط، ثم الشموع (المسيحية) التي ارتفعت عند الزاوية اليمنى من السقف.
العلوم والآداب والأديان الثلاثة الكبرى. هذا الخليط لا تجده في أية مدينة أخرى. فقط في نيويورك.
زيارة لمكتبة نيويورك
[post-views]
نشر في: 14 نوفمبر, 2017: 09:01 م