من أقوال يسوع " الموتى يدفنون الموتى.." هذا الكلام يشير الى الاحياء الموتى. وهذا التعبير على بساطته وإيجازه يفتح باباً للتأمل وللتفكير بحال الإنسان، حال البشر عموماً عبر تاريخهم وما يزالون. هم حظوا بفرصة حياة على هذا الكوكب وإنهم غداً لميتون وإن كانوا اليوم يدفنون موتاهم. وهذا الكوكب، المختلف عن كل الكواكب المعروفة حتى اليوم هو من بُعد الأكثـر جمالاً.
ومع امتياز الإنسان بعقل عظيم مفكر، يستدل ويستنتج ويختزن تجاربه ويتذكر، هو ما انتبه عبر كل التاريخ الى أنه، أو الى أن البشر جميعاً يسيرون في طريق خطأ، طريق يتعبهم ويدمر كل المتعة في حياتهم ويهددهم، أفراداً وجماعات بل يهدد البشرية قاطبةً.
هذه الجهود العظيمة في الابتكار وفي الفنون وفي المهارات وبإدارة هذا العقل الجبار، ما استطاع البشر أن ينتبهوا الى أنهم يهدرون دماً وجهوداً وأياماً بل وينتهون أحياناً إلى مصائر مجهولة أو إلى كارثة. هم انشغلوا بهوس شيطاني، قوى محاربة، سلاح، تدمير والاجتهاد الدائم في الانتصار والتغلب على الآخر، بمعنى كيف يمحقونه. الجيوش الهائلة في العالم اليوم بكل ترساناتها وما كلفت من أموال، كلها لقتل الآخر. للانتصار عليه. وهكذا نحن نفرح بمن قُتِلَ من الأعداء ونحيي الذي قَتَلَ واستشهد فقد دفع شراً.
السؤال أساساً لماذا البشر ساروا بهذا الطريق الذي يُكلفهم، على اختلافهم، دماً وأرواحاً وأموالاً وفرصتهم في العيش، عدد الأيام المقدرة لهم؟ لماذا لا يعيشون بجمال، بانتباه مبهج وسلام؟
أُسئل الآن، وما كنتُ أسأل هذا السؤال لو لم أتجاوز الثمانين. تجاوزت الثمانين عاماً حتى انتبهت كم سادراً كنتُ ! أسأل كم يكون العالم مبهجاً وكم سنكون مترفين وسعداء وبلا فقر ولا جوع ولا أوبئة ولا كراهات ولا شتائم ولا سوء سلوك وسوء طريق وسوء علاج وسوء مصير، لو أن هذه الجيوش العظيمة في العالم لم تُهيأ للقتل والتدمير وأن هذه المعدات والأموال والبشر قد هيئت لإصلاح الصحارى وبناء السدود ومكافحة الأوبئة ولنشر الثقافة وتطوير وسائل العيش ووسائل النقل ووسائل العلاج؟ ولو كل هذه الجيوش والآليات الجرارة شقت أنهاراً وجداول وأقامت عمارات ومجمعات سكنية ومشافي ومعاهد وملاعب وحدائق؟ ولو أنها ، هذه الجيوش الهائلة في العالم، لم تُدرَّب على القتل ولكن على الزرع والصنع والبحث وشق الطرق واطفاء الحرائق وزراعة المزيد من الغابات وتحلية مياه البحر؟ من أوقع البشرية بطريق الشر والعدوان (أو الدفاع) فأضاع جهوداً بابتداع آلات وأساليب قتل لا آليات وأساليب حياة أفضل وأجمل؟ إن الكون بعظمته ووضوحه، مع شاسع غموضه، ووجودنا نحن أحياء فيه، كل هذا مدعاة للتفكير العميق والدائم في مغزى وفي مدى هذا الوجود الحي وفيما يتهدده! لا تكفي الفلسفة الموروثة أو التي نمارسها ولا تنحصر الجدوى في التأملات المؤقتة والتي تُؤكَّد اليوم ويدحضها العلم غداً. علينا عدم الركون الى ما نعرفه وننسى أو، لا نبالي، بما لا نعرفه وهو كثير.. في الوقت الذي تنشغل فيه معامل صنع الاسلحة والمبيدات للحياة وللناس نجد علماء إتسموا بالرصانة والحكمة . هؤلاء لا يرتضون بما علموا لا بصناعة ولا حتى بسفن الفضاء والأقمار الصناعية. هم يعرفون أن أمامهم طريقاً طويلاً، بل طرقاً وفضاءات. ويعلمون أن معارفهم ليست دائماً كافية لفهم وجودنا الحي المتحرك على هذا الكوكب. يهمهم كيف يمكن أن نضمن الحياة والسلامة والتمتع بالعيش بدلاً من أن نؤسس نظرياتنا وأخلاقياتنا ومنتجات ابداعنا العقلي للتغلب على المضاد، على من نجعل منه عدواً ويجعل منا أعداء. لماذا هذا النزوع الاستحواذي التسلطي المدمر للإنسانية على الأرض؟ المنتصر قاتل والمنتصر عليه كان يمكن أن يكون قاتلاً لو أسعفته قوته واداته.
السؤال مرة أخرى لماذا هذا التفكير السيء والجميع يريدون العيش الآمن والتمتع بالحياة؟ للأسف، للأسف الشديد والفاجع، إن كل نظرياتنا العقلية وكل المعرفة التي امتلكناها ، ما استطاعت أن تضع الإنسان في الارض على الطريق الصحيح..
ولكني يجب أن أوقد شارة ضوئية، ولو صغيرة جداً، في هذا الظلام الكبير الذي تخوض فيه الناس وهم ماضون الى المجهول ولا أمل بانعطافة خيِّرة حكيمة متبصّرة لما يحتاجه الإنسان حقيقةً. هو لا يحتاج لأن يقتل. نحن قلبنا المعادلة، هو يريد أن يعيش والعقل البشري تطوّر كثيراً ويمكن الآن أن يعيش أكثر وأن تعيش الناس بلا قتل.. ترى هل يستيقظ الموتى؟ هل يصحو السادرون، الذين أوجدوا قتل الآخر طريقة عيش؟
يقول برتراند رسل : "ما لم تحصل أشياء لا يمكن التنبؤ بها قبل نهاية القرن الحاضر، فإن أحد الاحتمالات الثلاثة سيتحقق وهي:
1- نهاية الحياة البشرية وربما الحياة كلها على سطح الكوكب.
2- الرجوع الى البربرية بعد نقص فاجع في سكان الكرة الأرضية.
3- توحيد العالم تحت سلطة للكون واحدة تحوز على احتكار جميع أسلحة الحرب الضخمة.."
ثالثةُ أفكار رسل ، هي ما أتمناه . أبهجتني فيها عبارة "لمّ جميع أسلحة الحرب الضخمة المنتشرة في العالم في مكان واحد" لنوقف ولو لبضع سنين، أحداث القتل! لا أظنني مخطئاً حين أقول إن نزعة القتل والاستعداد لها وصنع آلياتها هي الطاغية اليوم أكثر من الفلسفة والتفكير بالمصير. الفلسفة قديماً، بل منذ أيامها الأولى كانت تهتم بمسألتين : بفهم نظري لتركيب العالم وثانياً بأن نكتشف وأن نركز على أفضل طريقة للحياة. يبدو لي أن التجارة بالقتل اليوم أكثر جدوى! مفكراً أقول خطأ هذا الطريق! أوقفوا مصانعكم الحربية وفكروا كيف يمكن أن يعيش وينعمُ الإنسان بالحياة!