وسألتك، أمازال أهلنا في البصرة يؤرخون على الريح مواسمهم؟ ويسمون الأيام على وفق هبوبها وسكونها، وعلى وفق برودتها وحرارتها يحرثون ويغرسون ويسقون، وهل بينهم من يتذكر أسماء الأيام والليالي، دخول المواسم وبزوع الانجم وشحوب الاقمار، وماذا عن مواعيد تفتق البراعم وذبول السعف وانحناء العراجين.. ولأني نسيت بعضاً من ذلك، بفعل التغرّب والتقلب في الأمصار، فقد اسهبت تحدثني شاكياً، باكياً، حزينا، كظيماً، مغلوباً، تشوكك شوكة التذكر وتجوحك جائحة النسيان.
ولأنَّ الشتاء راح يلملم آخر سرابيله، لأنَّ الربيع يوشك، إذ نحن في العشر الأواخر من الشهر الميلادي الثاني، سألتني ما إذا أسمع للضفادع نقيقاً أم لا؟ فقلت: أيمّا والله، كان النهر الذي يكوّفُ بيتنا مهملاً، ولم يعد يرى من مائه إلا ما كان قصباً، وكان الوقت أقرب للغروب منه الى نفور الشمس من هضبتها، وقد سمعت جلبة الضفاف، وهي تصّاعدُ نقيقاً، ورأيت كسل النهر حلفاء ومرّاناً وأشنات، فسألتك، ماذا يسمي أهلنا في البصرة الايام هذه؟ فقلت: هذا شِباط ولّباط !! تضطرب الريح فيه، ولا يأمن الفلاح فيه على ما غرس وزرع، فهو يغطي ما غرس في الليل ويكشف عنه في النهار، وهو يأمل المطر في النهار، لكنه يخشاه بالحالوب في الليل، مثلما يخشى تقلب الريح في ساعات النهار.
وحين هبّت نسيمة باردة، اشتدَّ أو إستدَّ آخرها –لا ضير-، وعلت بين السعف صيحات قمرياتٍ آمنة، ثم توغلت في قُلَبِ النخل عاصفة، سألتك، أيسمّي أهلنا هذه بشيء؟ فقلت: هذا مَخْبْ الطَّلعْ !! فتذكرت، موسماً للطلع، يبدأ في نهاية شباط، وينتهي عند فراغنا من النوروز، نعم، تذكرت أنَّ ابي كان يقول: "لقّحْ وسِدْ وفرّد وهِدّْ" يا ألله، من يفتح لغز الجملة الخصيبية الاثيرة في روحي هذه، اعطيه ما أملك. ولأنك مازلت على تينك الحياتين قلت: دعني أترجم لك. مع يقينك بمعرفتي، لكأنك تريد أن تشرك القارئين بما أخط اللحظة هذه. فقلت: في مطالع آذار، يبدأ موسم التلقيح، تلقيح النخل، ولكي يحفظ أهلنا ثمار نخلهم فهم يسدّون الماء عنه مع بدلاية موسم التلقيح، في مسعى خبروه، يؤمنون فيه على خصوبة اللقاح، فيأمرون بعضهم أن يقطعوا الماء عن النخل بعد تلقيحه من الفحول، وحين تكبر حبّاته ويصير جمرياً- الجيم أعجمية- في موسم التفريد يفتحون الماء عليه لتكبر حباّته وتُروى فتلين.حدثني من أثق بحديثه أنه، في السنة التي توّجَ فيها الملك غازي، أثمرت الأشجار مرتين في السنة تلك !! بمعنى أنَّ النخل أطلع مرتين، والرمان والتوت والخوخ والاجاص والسفرجل وسواه مما يزرعون ويغرسون أزهر وأثمر ونضج وقطف مرتين في السنة، وهو على خلاف الطبيعة، إذ من المستحيل وقوع ذلك. لكنني سأكون على اليقين المطلق مما ذهبوا اليه، ساعة أتذكر بأنَّ الناس خرجوا باكين، لاطمين، مفجوعين لوفاته، وأن المواكب خرجت من اقصى البصرة الى أقصاها باكية، حزينة لمصرعه. هل كانت الايام والليالي غير تلك؟ ومذا سيسمي أهلنا الايام تلك. كان عمّي عبد الجبار بن عبد الله آل عبد العزيز يقول:" إذا رضي الملك على حاشيته ملات الرمانة الواحدة الكأس، وإذا غضب الملك على حاشيته لن تملأ رمانات خمس كأساً واحدة !! قلت ماذا يسمي أهلنا ذلك ؟ صمت. وكانت الحيرة بادية.
في المواسم وأسمائها
[post-views]
نشر في: 20 فبراير, 2018: 09:01 م