TOP

جريدة المدى > عام > للضحك سردياته الشفوية

للضحك سردياته الشفوية

نشر في: 20 فبراير, 2018: 12:01 ص

الثقافة الشعبية هي التي جعلت الجماعات متجاورة وسعيدة بذلك ، تنصت لبعضها البعض وتتبادل اللغة التي تصوغ لهم المعنى . ولعبت الثقافة الشعبية ـ حصراً النكتة ـ دوراً بارزاً في وضع الأفراد وسط محيط حساس وصعب ، معقد وخطير ، إنه فضاء علاقات السلطة وهيمنة خطابها وذكاءها في آليات الإخضاع ، لكن الفرد المسلح بذكاء الإنصات للسردية الساخرة متمكن من الإفلات من السلطة والزوغان من سمومها والتحصن بالذاكرة التي ظلت حاضرة وقاومت النسيان . لذا أنا اعتقد بأن الثقافة الشعبية زودت الفرد سلاحاً للتعرف وعند تحقق هذا المطلوب فانه دخل محيط المقاومة ، ليس المادية وإنما الثقافية ، أنها ـ الثقافة ـ أكثر خطورة على عمل مؤسسات السلطة التي تستهدفها بالنخر وببطء شديد .

فمنتج النكتة ، مبدع ، حاز ما هو خاص به وجعله فرداً متميزاً في محيطه الاجتما- سياسي ، والثقافي . وجعل منها سلاحاً قوياً تخشاه السلطة وتخاف منه . لأنه كائن توفرت له عناصر ثقافية لم يكن سهلاً توفرها لغيره ، ومن هذه العناصر ، الثقافة والحساسية بالتعامل مع الفضاءات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتقاط الطافي فوق السطح بسبب التردي وتحوله الى مظهر فساد عام كذلك الشجاعة والقدرة على أنتاج سردية قصيرة جداً ، تتوفر على نسبة من الدراما وكشفت بعض سرديات الفكاهة عن توفرها لوجود سردية واضحة تتمثل بقدرة المنتج للعب في الصوغ والتعميم ، وتطعيم النكتة بالمجاز كوسيلة منقذة له من المواجهة مع السلطة والصدام المباشر معها ، ويكتفي بها وسيطاً لإبلاغ رسالة تمثل ضرورة للجماعات ، لذا تتلقفها بسرعة وتتداولها . ساعدت وسائل الاتصال الحديثة توسيع مساحة التواصل بها ، لذا تصل الى أقصى مكان في العالم بدقائق قليلة . وعرفت عدداً من الأصدقاء يتبادلون النكات الايرويتكية والمثير بالدهشة كانت هذه الجماعة مختلطة : ذكوراً وإناثاً / ومثل هذه النكات المعتمدة على الإرسال الحديث ، تقتضي الاختصار كثيراً والتركيز أيضاً .
تزدهر النكتة في الظروف غير الطبيعية والاستثنائية مثل ظروف الحروب والاقتتال الأهلي والانهيار الاقتصادي والفساد والتردي ، وشيوع الابتزاز وسيادة الأشخاص المعروفين والذين لهم مراكز اجتما- ثقافية حساسة جداً ، ولأن المشتركات الواسعة جداً بين المواطنين ، وتوفر فضاء كبيراً لتداول النكتة ، ولأنها تعبر عن هموم مشتركة بين الأفراد ، مما يجعل منها لساناً للجميع . وأكثر المتداولين لها الذكور الشباب والرجال ، بمعنى ترتبط النكتة بحيوية الفرد وشبابه كشرط اقترحته التبادلات ولم يشرع له أحد من متعاطي النكتة ، ويبدو لي بأن سبب ذلك عائد لشجاعة الفرد في تلك المرحلة من العمر ، كذلك هي مقتصرة على الرجال وإن وجد لها حضور بين النساء فقليل جداً . وسبب ذلك يقترن من استعداد الذكر للتصدي والانتقاد كجزء من نشاط ينطوي على بعد سياسي وسعي للإصلاح .
تشجع الأزمات المفاجئة على أنتاج النكتة وتتحول الى صوت مضاد ممتلئ بالسخرية والهزأ . عن كبار المسؤولين بالسلطة وتبلغ الرسالة حداً أوسع وأقسى عندما تتناول ابنة المسؤول أو زوجته ، وهذا ما تبدئ في مرحلة النظام السابق والآن .
وكلما كان منتج النكتة مثقفاً ومتنوراً ازدادت فعاليته وتميزه وتحوله الى كاريزما مجتمعية وارتبطت بعض الأسماء بهذا المجال الفاعل في المحافظات ومنها على سبيل المثال في البصرة كل من كاظم الحجاج والأستاذ محمود عبد الوهاب وفي بابل لطيف بربن ، والملا محمد علي القصاب وحامد الهيتي وموفق محمد وعرفت هذه الممارسة وجود أمكانية نقدية ، تقترح تغيراً في البناء السردي للنكتة وأجراء إضافة أو اختزال أو وضع ما يجعل من النص الساخر طاقة ذات فاعلية كبيرة . وهذا ما تعرفت عليه في تداول النكتة بالأوساط الاجتماعية والثقافية ببابل ودائماً ما كان الشاعر موفق محمد يستلم النص . بعد شيوعه وينتج على هامشه نموذجاً مغايراً .
توسع مجال قراءة هذا النوع السردي المهم والخطير وقلنا بأنه متداولات حاضرة في الآن وليست ذات علاقة بالماضي لأنها تمثل نتاجاً لفترة معيشة وآنية ، بسبب اقترانها بحدث سياسي أو اجتماعي ، يعني جماعات واسعة جداً . فالنكتة مثلما اعتقدها سردية تعيش بالروايات وتطغي بصفتها الشفوية وقدرة الراوي ولباقته على تمثيلها وتقديم تفاصيلها بتركيز وسرعة . لا يمكن التعامل مع النكتة باعتبارها مأثوراً شفوياً لأنها لا تقترن بالماضي ، بل بزمن حاضر ، لكن هذا لا يعني تناسبها وتجاهلها ، بل تبقى محفوظة بخزانة الذاكرة .
تنفتح النكتة على سرديات مبتكرة وغير صحيحة ، لأنها بحاجة لذلك كوظيفة استهداف للسلطة وعلاقات الهيمنة والإزاحة فكثير من السرديات الساخرة ليست حقيقية أو واقعة فعلاً بل هي تنطوي على تمثيل للحياة أو ما يشبه ذلك .
وتستوعب النكتة الإشاعات والمرويات المفتعلة أو الأكاذيب التي توفر أمكانية أنتاج النكتة منها . ومعروف بأن المراحل التي تشهد تردياً وتوتراً هي التي تشجع على بث الإشاعات والأكاذيب وما سبب انتشارها إلا قوة تأثيرها .
تحتاج رواية النكتة في مدينة محددة ، ( هي التي انتجتها ) وما حصل عليها من تحولات الى دراسة ميدانية دقيقة ، تتم فيها تسجيل النكات المتحولة أو التي حصلت عليها متغيرات ومقارنتها بالنص الأول ، ستتضح للدراسة الأسباب الموجبة لحصول الإضافة أو الحذف وهذا أمر مهم وجوهري ، سيساعد على معرفة المستويات الاجتماعية / السياسية / الثقافية ، التي تداولت شفاهياً تلك النكات ، وحتماً سيتمكن الدارس من التوصل الى مؤشرات مهمة .
هذا الذي ذهبنا إليه حتمي ، لكنه غير مدروس ولم تحصل عليه تطبيقات ، لأن المتغيرات بسبب التناقل في شكل سردية شفوية من راوي آخر وقد تحصل في النص تحولات استوجبتها مميزات معينة خاصة بالمدينة التي أنتجتها والأخرى التي تداولتها وبقاء السردية حاضرة وثابتة خاضع لنوعية الرواة ومستواهم الثقافي ويقظة الذاكرة وقدرتها على الحفظ ومقاومة النسيان . لكن علينا التنبيه الى أن الذاكرة هي الحاكمة في شفوية التداول وعجزها يعطل الرواية أو يضفي عليها فجوات أو يضيف لها ترميمات تؤثر على بنيتها ، وهذا يحصل على كل المحفوظات الشفوية ومنها المأثورات ، لان الذاكرة ـ حتما ـ تستجيب للزمن سلباً وايجابا ( أن التدريب على عملية الحفظ والتذكر من العوامل الأخرى التي يجب التنبيه اليها ، ومن ثم فان النسيان ، أو عدم القدرة على التذكر يرجعان مباشرة الى طريقة التناقل ، ودرجة التحكم بالممارسة في رواية النص وتكراره ، واعادته / يان فانسينا / المأثورات الشعبية / ص142//
إن تكرار إعادة النصوص هو عامل يعطي بعض الدلالة على مدى ما تتعرض له " المرويات " نتيجة العجز عن التذكر ، لأن الإعادة غير المنتظمة والتكرار تزيد من احتمال حدوث الخطأ أو النسيان ، وفي عدد من " المرويات " يكوّن التكرار نوع العادة المتبعة / ن.م / ص145//
أشار الأستاذ " يان فانسينا " الى أن الفرق الوحيد الظاهر بين الأدب المدون والأدب الشفاهي ، الذي يتردد بانتظام الى حد ما هو أن التكرار والإعادة يستخدمان عادة في الأدب الشفاهي ، أكثر مما يبدو ذلك في الأدب المدون . ولكن ليس هناك أي شكل خاص يلائم الأدب الشفاهي وحده / ن.م / ص165//
إن معظم النصوص الشفاهية ، وليس كلها ، تخضع لنسق خاص من التنظيم الداخلي ، ذلك أن المضمون لا يصاغ صياغة عشوائية ، ولكنه يصاغ وفقاً لقواعد معينة . وتساعده هذه القواعد على أمكانية تصنيف الأدب الشفاهي بناء على ضرب البناء الداخلي الظاهر للعيان / ن .م / 167//
كنا قد ذكرنا أهمية حضور المكان / المدينة التي تنتج فيها السردية الفكاهية وقد أطلق عليه" يان فانسينا " التعرف على البيئة . فان كل رواية ، تنشأ داخل بيئة ثقافية معينة وتتم المحافظة عليها وتصاغ وفقاً لنموذج ثقافي ، إنه جزء لا يتجزأ من الثقافة . واقتطاع المروي من سياقه هو شكل من أشكال البتر . لذلك فمن الضروري لأدراك كنه المروي أن يعرف الإطار الثقافي الذي تسبب في وجوده / يان فانسينا / ن.م / ص352//.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

إردوغان عن دعوة أوجلان إلى إلقاء السلاح: "فرصة تاريخية"

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram