TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بلتيقة، برتيقة = بولتيكا Politica

بلتيقة، برتيقة = بولتيكا Politica

نشر في: 12 فبراير, 2018: 09:01 م

ثمة مفردتان عراقيتان تربطان (السياسة) في أفقها المحليّ بـ (الألاعيب) و(الحيل) و(التخابُث) والتحايُل على الجمهور. الأولى بلتيقة (برتيقة)، ومعناها العريض، في الاستخدام الشعبيّ، الحيلة، أو الألعوبة التي يُستهدف من ورائها التضليل. سيُعْجب المرء أنها مشتقة ومحوّرة من مفردة بوليتيكا = السياسة (Politica). لقد فهم العراقيون السياسة بصفتها محض بلتيقه (برتيقة). وأظنّ أنهم تأملوا سياسات العثمانيين فوجدوها بلتقية وراء بلتقية، وأحسب المفردة دخلت إلى لسان العراقيين زمن الدولة العثمانية.
أما المفردة الأخرى فهي (بلشتي) ومعناها في الاستخدام العراقيّ وعموم الخليجيّ، المحتال، صاحب الحيلة، سيئ الخلق والعاطل عن العمل. وهي على الأرجح من الفارسية (بَلَشت) (پلشت) كما في المعاجم الفارسية المعاصرة، ومعناها القذر، وقد تُطلق على الكسول الذي لا عمل له. حسب كتاب رفعت رؤوف البزركان (الألفاظ الدخيلة في اللهجة العراقية الدارجة)، بلش (بلشت) تعني السارق والمغتصب.
لكن هناك من يقترح أنها مشتقة من الترجمات العربية الأولى للبلشفي bolchevik. والبلاشفة أو البلشفيك تعني الأكثرية وقد أطلقت جماعة الجناح اليساري من أنصار لينين، في حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي هذا التعبير على نفسها عام 1903، بينما سُمي البقية بالمونشفيك أي الأقلية. ويبدو أن التسمية العراقية بلشتي، حسب هذه الفرضية الصعبة، تُضْمر الاعتقاد أن البلاشفة كانوا أصحاب حيلة أوْصَلَتهم إلى السلطة. وبهذه المناسبة فإن (المسقوفي) في اللهجة العراقية البغداديّة تشير إلى الموسكوفي Moskovich أي ساكن موسكو.
ولا نعرف علاقة منطقية بين (البلشتي) و(البلشفي) سوى التصويت الخارجي الاعتباطيّ الذي يميل إليه غير المعنيين باللغات واللسانيات، وهم يشكّلون قطّاعاً واسعاً، للأسف، من الخائضين في أصول اللهجات المحلية واللغات.
عند العراقيين، كل مُمارِس للبلتيقة والبلشتي ليس سوى (سيبندي) أي محتال، والمفردة هذه فارسية وتعني (أبو الثلاث ورقات)، مُركَّبة من (سي- بند)، سه = ثلاثة، وبند = بنود أو أقسام.
هكذا نجد أن الوعي الشعبيّ كان مبكراً في نسيان السياسة تماماً، والتشديد على البلتيقة، المشتقة لفظياً من السياسة، بوصفها جوهرَ آليةِ المُخادَعة بين البشر، وكان هذا الوعي حاذقاً في مُقارَبة الكائن المُخادِع بخفّة يد لاعب الورقات الثلاث، السيبندي.
في الفكر الأوربيّ السؤال المطروح يظل ملحاً عن العلاقة بين (السياسة) و(الأيطيقيا = البعد الأخلاقيّ)، ويبقى التفارُق ملموساً عبر ثنائية أمير (ميكافيللي) والعقد الاجتماعي لـ (جان جاك روسو): بين لاأخلاقية الغايات التي تبرر الوسائل، وأخلاقية الفيلسوف الرفيع الذي لا يقبل ذلك المنطق. ميكافيللي ظاهرياً هو سيد "البرتيقة": "من الضروري أن يتعلم الأمير، إذا أراد أن يبقى في السلطة، أن لا يكون في الخير، أن يستخدمه أو لا يستخدمه حسب الضرورة". (الأمير، الفصل 15). في حين يتحدث روسو عن (الطبيعيّ) و(حالة الإنسان في قلب الطبيعة) التي تجعله (طيباً) بالضرورة، حتى في السياسة، وأنه يمكن أن يميل إلى التحسّن والكمال مثله مثل المجتمع، وهذا يفترض أن عليه أن يتعلم السياسة بمعناها العالي.
من جهة أخرى، الواقعية ليست برتيقة، وحتى واقعيو السياسة الأوربيون حدّ النخاع، يشيرون عن حق أن على السياسيين تحرير أنفسهم - ولو جزئياً في بعض الظروف - من (التشفير المبتذل) للسياسة.
"الوعظ بالفضيلة" ليست من مسؤولية السياسي ولا من نشاطه، ولكن هذا الأمر لا يعني بحال من الأحوال أن من حقه ممارسة البرتيقة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram