ها هنا أشير إلى المثقف.. إلى غرفته التي تنفتح على العالم بتقنية الإنترنت. وهذه لا تشبه الغرفة التي تحدّثتْ عنها فرجينيا وولف، وتختلف عن الغرفة التي كتب فيها بروست عن زمنه المفقود، ولا صلة لها بالغرفة التي خبأ فيها كافكا رسالته إلى أبيه ولم يبعثها قط. وحتى لو كان (مثقفنا) ما يزال في بيت العائلة فالغرفة التي هو فيها الآن ليست هي ذاتها التي عاش فيها آباؤه وأجداده. ولا دور لصور الأسلاف المعلقة على الحائط.. مع الإنترنت نحن في فضاءٍ آخر.
استبدلت مؤسسة الإنترنت الحدود.. حطمت الحدود الفيزياوية التي ألفناها للأشياء، للزمان والمكان.. تحوّلت مفاهيم الزمان والمكان، وظهرت منظومة علاقات مركّبة ومجسّمة، غير مألوفة وغاية في التعقيد بينهما، وبينهما وبين الإنسان.. لم تعد العلاقات ذات بُعد واحد، أو ببعدين.. أنت مع الإنترنت عالق في شبكة لا خلاص منها، على مدار الساعة، تتواصل من محاور عديدة مع من هم مثلك في عزلتهم المفتوحة. وتتلقى رسائل وشفرات العالم من الجهات كلها.
هذه الغرفة ضيّقت على مثقفنا الخناق، وفي الوقت نفسه أطلقته في سماوات لا تُحد. فعالم الإنترنت جعل من الغرفة سجناً حدوده (الافتراضية) الكون. وإذا كنا نجد كثيراً من الناس يقولون: "لم تعد هناك حدود" فباعتقادي أن هذه المقولة غير دقيقة.. ما حصل هو أن الحدود تغيّرت، تبدّلت مداراتها، وبتنا لا نراها بعدما انتقلت خارج نطاق تصوراتنا.. مع الحدود الجديدة اكتسبنا خارطة جديدة لوجودنا وعلاقاتنا.. الحدود توسّعت وهي قابلة للتوسّع في كل يوم وفي كل ساعة.
الرواية تجعلنا نتخيل شخصياتها وأحداثها ونحن نقرأ. مع الراديو نحيل ما نسمعه إلى صور في الذهن. وكلاهما يبقي المخيلة نشطة طوال الوقت. وحين جاء التلفاز بلّد المخيلة إلى حد بعيد، ولم يقتلها تماماً. بيد أن الشبكة العنكبوتية أوجدت شيئاً آخر.. فمعها لا تُضمر المخيّلة بل تغادر مجالها القديم فاتحة أفقاً آخر لها بمديات وآليات غير مسبوقة. وحين تتغيّر طبيعة المخيّلة تتغيّر الثقافة كتحصيل حاصل. لتظهر مفاهيم وقيم لم نكن نعرفها من قبل. فيما ستكتسب المفاهيم والقيم القديمة محتوى وبعداً طارئين. ذلك أن كل شيء في غرفة المثقف بات طارئاً لا يدوم.. كما لم تعد جدران غرفته عازلة.. لم تعد العزلة هي ذاتها كما خبرها أفلاطون والمعرّي وتوما الأكويني وشكسبير وماركس والأخوات برونتي وأميلي دكنسن وتوفيق الحكيم وغابريل غارسيا ماركيز. فلا خصوصية ولا سرّية ولا حميمية محميّة لغرفتك.. فأنت في الزحام.. أنت جزء من مجموع افتراضي فعال.. أنت حاضر ومراقَب يا صاح.. أنت تحت رحمة الـ (BIG BROTHER).. وإذاً حتى في أقصى أفق تمردك أنت في السياق والصدد. ذلك أن الأمر يجري في إطار النظام، وهو متشعب ومنظم ومستبد ومستمر وقادر.. هذا ما خُطط له؛ أن تبقى جزءاً داخل إطاره، مهما توهّمت حول تأثيرك، وإزاحاتك التي تهدد ولا تقلب نظام الأشياء القائم رأساً على عقب.
لن يجدي اللوم والشكوى والصراخ.. ولا فائدة ترجى من الحنين المفرط لزمن مضى وإلى الأبد.. ما ودّعناه بالأمس لن نلقاه ثانية في طريقنا أبداً.. وأطلال أمكنتنا نهضت عليها اليوم ما هو براق ومبهرج.. ستقول بلا قلب.. وأقول لا، ثمة قلب معدني، غاية في الإتقان، غير معرّض للسكتة والتجلط.. قلب عالم استهلاكي مقنّع لا تعنيه المشاعر، يسخر مما نسميه الحب، ويودع العشاق في معرض العاديّات.
ما الذي ينفع إذاً؟.
أينفع أن نغادر غرفنا بين الحين والحين للإبقاء على جذوة قلوبنا الإنسانية مشتعلة حارّة؟ وهل من فائدة ترجى من أن نظل نثرثر ناقمين ناقدين؟ أترى بمقدورنا بهذا أن نخلق زحزحة حقيقية في نظامهم، ونجعلهم على قلق؟.
ربما.....
وجهة نظر: في الغرفة، لستَ وحدك

نشر في: 11 فبراير, 2018: 12:01 ص