TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > لسنا غير حيوات تروي بعضها

لسنا غير حيوات تروي بعضها

نشر في: 6 فبراير, 2018: 09:01 م

عجيبة هي الأنوات التي التي اخترعها مؤسس الحداثة الشعرية البرتغالية فرناندو بيسوا، كأنها شخصيات مستقلة، لها حياتها، مساراتها، بل لها مكان وُلدت فيه ومكان آخر ماتت عنده، ومن يقرأ ما كتبه بيسوا تحت إسم إحدى هذه الأنوات سيكتشف مباشرة استقلالية كل نص عن الآخر، وكيف أن المكان الذي تخيله الشاعر لولادة أناه أثرت على شكل ومضمون النص، على المفردات والصور الشعرية، فشخصية وُلدت في الريف تكتب قصائد تختلف عن شخصية ولِدت في المدينة، وشخصية ولِدت في المدينة تختلف هي الأخرى عن شخصية ولِدت عند مدينة تقع على البحر، كأن الشخصيات تلك التي ليست من اختراع بيسوا، بل هي قدره الشخصي ذاته، أنه كل هؤلاء، اسماً ومنشئاً وترعرعاً وتربية وذوقاً، ذلك ما أفكر به كلما تجولت في مدينته التي أحبها، رغم ما واجهه من مواطنيه من حيف وتصغير، ربما فكر بيسُوا بهذا أو ذاك، ولا أدري ماذا سيقول بيسوا لو قرأ هذه الكلمات، أو عرف أن أحداً سيأتي من بلاد بعيدة، غريب حقيقة عن هذه المدينة، من أجله هو وحسب، يصعد شوارع لشبونة وينزل، يسير على خطاه، يبحث عن آثار تركها وراءه، كأنه لا يصدق أن صديقه مات، وأن مَنْ مات في 30 نوفمبر 1935 وبتشمع الكبد، هو أحد الشخصيات التي إخترعها بيسُوا على هواه، والتي وُلدت من عقله وقلبه، وعاشت معه جنباً مع جنب:
البرتو كائيرو، ريكاردو رايس، ألفارو كامبوس، أنتونير مورا، فرناندو سواريش، بيثينته كيديس، الكسندر سيارج، وآخرون تركهم تباعاً، أو أماتهم مبكراً. لكن يظل الثلاثة الأوائل هم الشخصيات الأكثر قرابة له، الشعراء الثلاثة هؤلاء الذين انبثقوا من داخله كما لو كانوا شخصيات اختلقها روائي. هذا ما أراده الشاعر أو على الأقل كما نراه نحن دون أن نجعلهم متماثلين معه كما سعى هو دائماً، تطابقاً مع ما كتبه ذات مرة، بأن "يصبح الشاهد الوحيد للحياة دون أن يمتزج معها" محاولة غير نافعة، فبيسوا في النهاية هو كائيرو، كامبوس، رايس، مثلما يكونون هم معاً، هذا الـ "بيسوا" الذي من خلالهم حقق نفسه لكي ينسى وجوده الميتافيزيقي في الحياة،، قبل أن يموت وكان أتم للتو السابعة والأربعين.
في كل رحلاتي إلى لشبونة وتجوالي فيها، في كل ما كتبته لاحقاً من مقالات عن صاحب "البحار"، "دكان التبغ"، "رسائل إلى أوفيليا"، "كتاب اللاطمأنينية"، و"يوميات البارون دي تايبه"، حضر الثلاثة هؤلاء معي، وكان هو بيسُوا الرابع المتُخيل الذي يصعب تعريفه في خانة أو وضعه في مكان، أنه شخصية متعددة الجوانب، منقسمة، تعيش من التناقض الذي تصنعه في نفسها ولنفسها، "لست أحد الكتاب، إنما أنا الأدب كله"، كأنه يشير بقوله ذلك إلى حدث قدري، ليس بالسيء وليس بالجيد، قدر لا حيلة للمرء إزاءه، أنه واقعة وحسب. ربما هو اليتم المبكر الذي ترك تأثيره الكبير على حياته، وجعله يشعر بـ "تلك الحاجة لتزويد العالم بشخصيات خيالية"، من أحلامه المبنية بصرامة، يخترع "شخصيات مرئية بوضوح فوتوغرافي ومفهومة داخل أرواحها"، كما كتب ذات مرة؟ من يدري؟
في الثلاثين من نوفمبر الماضي وقفت عند قبر فرناندو بيسُوا في لشبونة، كي أنثر االزهور عليه على عادتي كل عام، القرنفل التي أحبها بالتحديد، كي أحكي له أيضاً عن أصدقائه الجدد الذين إنطلقوا بالبحث عليه، في كل مكان، وأنا واحد منهم، لا يهم أين أتواجد، أين أتنقل، واين أعيش، في بغداد أو لشبونة، في نيويورك أو برلين، فنحن في النهاية، كما رسم لنا هو المتميز في تفرده ذاته، ليس غير حكايات تتوزع في كل مكان: "حيوات تروي بعضها".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram