TOP

جريدة المدى > عام > الكوميديا السوداء ودورها التحريضي

الكوميديا السوداء ودورها التحريضي

نشر في: 5 فبراير, 2018: 12:01 ص

 هل عالج الاديب العراقي أحداث بعد 2003 بشكل ساخر؟

 

حين كُنا نقرأ روايات لفؤاد التكرلي، وغائب طعمة فرمان كُنا نلتمس روح النُكتة الراقية البعيدة عن الابتذال، وحتى في بعض القصائد السياسية الساخرة أو الاجتماعية التي كان يكتبها عدد من شعراء العراق...
ولأني أميل للرواية أكثر من الشعر سأتحدث عن السُخرية في روايات فؤاد التكرلي كمثال "لفن السخرية في الادب"، لم يكن التكرلي يذكر "نُكتة "صريحة في رواياته، إلا أنه كان يوظف أبطاله ويتحدث عنهم ويحركهم بين سطور رواياته بشكل يجعلنا نعجز عن كتم ضحكاتنا، ولم يأتي التكرلي بسخريته تلك من خارج حدود الواقع والمجتمع الذي نعيشه بل على العكس استخدم التكرلي روح المجتمع والفرد العراقي لتوظيفها في فن السخرية في رواياته وقد أبدع في ذلك...

 

فحين كان يتحدث التكرلي عن شخصية "ابو فتحية" وشخصية "صاحب البريد في الدائرة" في رواية " المسرات والأوجاع " يُجسد لنا "نُكتة" من شخصيتهم التي هي خلاصة الواقع الخاص والعام أي الاجتماعي والفردي، حتى في تجسيد أحقادهم وكيفية عكسها على الواقع كان يسردها التكرلي لنا بطريقة تجعلنا نعجز عن عدم الابتسام على الأقل...
كذلك في روايته "الرجع البعيد " والتي كانت أقرب للواقع والمجتمع والسياسة من "المسرات والأوجاع" استخدم التكرلي الاسرة العراقية كصورة مصغرة عن الواقع العراقي الاجتماعي، وجسد لنا شخصيات تُمثل مجاميع في الرواية واستخدم "نَفَسياتهم" أو "روحيتهم" لنقل معاناة الواقع في روايته بطريقة ساخرة، فمن خلال شخصية "عمة مدحت" و"الجدة أم حسن" ومن خلال شخصيتي الطفلتين "سها وسناء" كان التكرلي ينقل لنا صورة اجتماعية ساخرة عن عقلية النساء السُذج والبسطاء في المدينة، الحوار الذي غالباً ما يطلقه التكرلي وسط الكثير من الأحداث الصعبة بين أم حسن وعمة مدحت يدفعنا غالباً لإطلاق قهقهات، والحوار البريء أحيانا بين الطفلتين سها وسناء يجعلنا نتساءل مبتسمين كيف استطاع الروائي بعقل ناضج أن يُدخل روحه هذه بشخصية طفلتين فينقل لنا روحيّ طفلتين بعبثهما وبراءتهما وبسخرية أفكارهما أيضاً، اضافة الى جلسة الحانة الليلية التي تجمع "حسين ومدحت وأبو شاكر والآخرين" والتي تتضمن أحاديث ساخرة عديدة من المجتمع والسياسة والواقع....
خُلاصة الحديث كما استطاع التكرلي وفرمان مُناقشة الواقع المرير سياسيا واجتماعيا وانسانياً وأخلاقياً آنذاك، هل استطاع الأدباء اليوم في العراق نقل الواقع الأليم بسخرية ومعالجته من خلال ما يعرف بالكوميديا السوداء، أم انهم نقلوا الواقع بسوداويته فقط كعملية تدوين له وتوثيق لا أكثر، وهنا نتحدث عن فترة ما بعد 2003 على وجه الخصوص!
السخرية ليست فعل مجاني، فهي تحمل مجموعة رسائل اتصالية غرضها التأثير في الآخر لتحقيق مجموعة كبيرة من الاهداف، يتحدث الناقد فاضل ثامر عن فن السخرية قائلاً "إن أهداف السخرية متنوعة ومختلفة فقد تهدف الى تحقيق لون من الامتاع والتسلية والترفيه، وقد تنطوي على مواقف فكرية وسياسية، وقد ترتقي الى مستوى التهريح والتجريح أحيانا."
تميل السخرية وبشكل عام الى محاولة لتوجيه نقد معيّن الى ظاهرة سلبية في الحياة والمجتمع من خلال وضعها في حالة مفارقة وتجريدها من مظاهر الوقار المصطنع، وهنا يجد ثامر أن "السخرية تعني تقزيم الواقع ودفع الآخرين للاستهانة به او الضحك منه والاستهزاء."
في الأدب تتحول السخرية أحياناً إلى لون من الكوميديا السوداء وإلى هذه النقطة يشير ثامر قائلاً "تحاول الكوميديا السوداء أن تتحاوز الاستسلام الى سطوة الاستبداد والتسلط السياسي من خلال لون من الفكاهة الناعمة التي تحرض المتلقي على كسر حاجز الخوف تجاه مظاهر العنف والهيمنة والقبح ومواجهتها بشجاعة أو على الأقل الاستهانة بها."
فن السخرية واحد من المكملات الانسانية التي قدمها الانسان وتفرعت من أنماط عديدة منها المسرح والسينما والادب والصحافة والحياة وغيرها، تكمن أدوات الأدب الساخر في الوسيلة الأقرب للتهكم وإشاعة المفارقة وإبراز فارق التناقضات مستخدمين بذلك اللغة البسيطة بعيداً عن الزخرف اللغوي والبلاغة المقيتة، ليتحدث لنا الروائي خضير فليح الزيدي عن كالفينو والسخرية ذاكراً " كالفينو هو مَن أثار قضية الأدب الساخر والتنظير له بشكل واسع، ففي السرديات الحديثة حسب وصفه يعتبر أن رواية دون كيشوت هي الرواية الأولى التي كتبها سرفانتس في حقل الأدب الساخر، وهي الرواية التي أعلنت ولادة الأدب الساخر عالمياً بشكل جلي."
أما عربياً كما ذكر الزيدي "يُعدّ زكريا ثامر الكاتب القصصي الفذ هو صاحب الريادة الأولى في إشاعة الأدب الساخر وينضوي تحت الكوميديا السوداء الساخر والتهكمي، لا ننسى الدور العظيم لشارلي شابلن في الفن السينمائي في إرساء الفن الساخر وعادل أمام عربياً، ثم تأثرت الفنون السردية في كتابة وإشاعة السخرية (المبكية – المضحكة) في الرواية والقصة عربياً وعراقياً."
أما عن سخرية أدباء العراق من الواقع فيذكر الزيدي أن " نخبة من الكتاب العراقيين تمكنوا من إشاعة الادب الساخر بشكل ملفت، يكمن السبب في طرافة الواقع ومفارقته وسوداويته التي استطاع الكاتب العراقي توظيفها بطريقة يتقبلها القارئ بشكل رحب، ثم أن مزاج العراقي بشكل عام ميال إلى الروح التهكمية سواء في الأدب أو الفن وحتى في الحياة، وما بروز ظاهرة "التحشيشة العراقية" إلا كونها مزاجاً عراقياً في التهكم من السياسة والدين والجنس."
إمكانية الاديب العراقي بمناقشة الواقع بشكل سخر ما هي إلا مفارقة تراجيكوميدية، كما يطلق عليها في الفن المسرحي والدرامي، تكمن في أن الواقع ربما أكثر كوميديا من الآداب مجتمعة، فالكتابة المتجهمة كما يشير الزيدي "تكون ثقيلة وغير سلسلة التقبل لدى القارئ، والتهكم هو طريقة ساخرة بازدراء هذا الواقع السوداوي والنيل من الجدية القاتمة."
أما في مجال القصيدة الساخرة فقد استطاع الشاعر العراقي أن يوظف الكوميديا السوداء التي تفكك جزءاً من الواقع كما ذكر لنا الشاعر موفق محمد "حيث تلقي القصيدة بعد 2003 الضوء على مجموعة من السراق المحترفين في وقت بات الجميع يتعامل مع الفرد العراقي كقطع غيار بشرية محترقة."
إلا أن الشاعر موفق محمد يجد أن "الشاعر قد وقف عاجزاً عن اللحاق على الارصفة والشوارع عن المآسي التي ماتزال قائمة حتى الآن فقد اصبحت ملاحقة هذه المشكلات الواقعية أمراً متعباً لمناقشتها بطريقة تُخفف من وقعها على المُتلقي."
حين يكون الواقع مأساوياً الى هذا الحد فهو بالطبع أكبر سخرية مما سيُكتب على الورق وهو لا يحتاج الى أدوات كوميدية أو ساخرة لنقله بل كما يذكر محمد "أن الواقع لن يحتاج إلى لعين ثاقبة ولسان ناطق ليُشير الى وجوه تسببت بلوعتنا فنحن ضمن حالة من الضحك المُبكي الآن فما للسخرية سوى أن تنهال علينا كشلالات من الدموع، تحرقنا بجحيمها فتُخلق القصائد التي تنورنا."
أما عن دور الشاعر الساخر في نقل الواقع بشكل ساخر يذكر الشاعر موفق محمد "إن على الشاعر الساخر أن يكون خبازاً في جهنم لينجح من السخرية من الواقع فيشبع بطون الجياع بخبزه الرخيص."
السخرية الأدبية عبر التاريخ تجسد ظاهرة للثقافة الانسانية ، كما إنها تمثل نُضجاً في تشخيص ملامح الواقع ، وفي وقتنا الحالي نجد إن الثقافة العربية تشهد صعوداً في فن السخرية وتوظيفاً جريئاً لها حيث ظهرت فنون ساخرة إضافة الى الأدبيات التي اعتدناها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

إردوغان عن دعوة أوجلان إلى إلقاء السلاح: "فرصة تاريخية"

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram