أتخيل شخصاً يدخل حقلاً مليئاً بالزهور، وبذهنه نوع واحد من الورد، لا يحيد عنه ولا ينتبه الى الانواع المدهشة التي تملأ عطورها المكان برمته، لا ينظر الى جمالها ولا يريد ان ينشغل به اصلاً. لا يحاول ان يكتشف مناطق جمال تختلف عن التي يعرفها ولا يكلف نفسه بفتح نافذة جديدة حتـى وان كانت تطل على كل مروج الارض والوانها وفتنة زهورها. يتعصب لوردة واحدة لا غيرها، وردة ربما هي اقل عطراً وجاذبية وتأثيراً من باقي الزهور، لكنه منشغلٌ بها طوال الوقت فلا يرى باقي الجمال الذي يحيطه، وبهذا تذهب فرص كثيرة لاكتشاف مواطن جمال وافرة، وتفلت من اليد متع لا تُعَدَ ولا تُحصى. المسألة هنا ليست لها علاقة بالوفاء أو الولاء لجمال معين، بل بالتعصب الاعمى الذي يغشي البصر ويمحي مناطق من الذائقة، التي حتى لو حاولت ان تنفتح على مناطق اكثر إتساعاً، فهذه الوردة تقمعها وتغلق امامها الابواب والستائر، وهنا كلما إزداد التعصب قَلَّ الجمال وَمُحيَت الذائقة.
هذا ما يحدث بالضبط للفنان الذي يتعصب للطريقة التي يرسم بها فقط او ينفذ بها اعماله، لا يرى غير وردته حتى وان ذبلت. لا يفتح نافذة مرسمه ليطل على جمال اعمال الآخرين، ولا يُعجب بها ابداً. هو لا يريد ذلك بكل الاحوال، ولا يؤمن سوى بشيء واحد، وهو ان ما يقوم به هو الاعظم والاجمل، وهو الصراط المستقيم نحو روح الفن ومبتغاه. وما يراه في وردته هو حقيقة الجمال والمثال النهائي للفن الذي يجب ان يكون. ليس هناك اكثر غرابة وسريالية من احكام كهذه، بل ليس هناك أشدَّ من ذلك كتاتورية وإنحرافاً عن جادة الفن الذي خُلِقَ ليكون متنوعاً.
هل علينا أن نسير كلنا في طريق واحد، نتزاحم فوقه كتفاً لكتف، لنتأخر جميعنا بالوصول الى أهدافنا؟ وننسى أو نتناسى عن عمدٍ ان الفن لم يكن سوى ساحة مستديرة تؤدي الى عدة طرق واتجاهات. الجمال في التنوع، واهتمام الفنان بما يقوم به غيره، المختلف عنه، هو دليل على ثقته بنفسه ومرونة ذائقته وتعدد حلوله البصرية. ذات مرة فاجئت فرانسوا زوجها بيكاسو بسؤال مباغت (ماهو رأيك بأعمال شاغال؟) فأجابها اعظم فناني عصره ( ربما لا أكون محباً للحمير الطائرة أو الديكة التي تعزف الكمانات، لكن هذا الشاغال بالنسبة لي هو اعظم مُلَوِّناً رأيته بعد ماتيس).
أحياناً، يقول البعض ان هذا أو ذاك الفن طليعياً ويمثل هذا الوقت! أرى ان الفن الجميل طليعياً بالضرورة، وليس للوقت علاقة بذلك. الفن حين يكون مؤثراً وجميلاً ويداعب الروح، فهو طليعي ويبقى حياً في كل وقت، كما قال فنسنت فان غوخ وهو يكتب لأخيه تَيّو حول لوحة ريمبرانت العروسة اليهودية، التي مضى على وجودها اربعمائة سنة تقريباً (انا على إستعداد للبقاء واقفاً امامها اياماً طويلة دون حراك، حتى وان لم يكن معي سوى الماء والخبز).
يبقى الفن في النهاية عبارة عن كذبة بصرية، والفنانون يحاولون جاهدين لجعل الآخرين يصدقون كذباتهم الملونة ويتفاعلون مع جمال شكلها وطريقة تنفيذها وطرحها، فلا تجعل كذبتك ايها الفنان هي الكذبة الوحيدة التي امتلكت ناصية الجمال، فكلنا كذابون ياصديقي على قماشة الرسم، وماتراه من نساء جميلات وخيول تعبر البراري ومناظر عن المدن والريف، وحتى ايماءات العشاق او انعكاس الأشجار على صفحات الماء وغيرها الكثير، غير موجودة في حقيقة الامر، والمسألة لا تتعدى قطعة من الكانفاس وُزِّعَتْ فوقها مجموعة من الالوان والخطوط بطريقة خاصة تناسب مزاج الفنان والمؤثرات التي تحيط به، وتلائم خبرته البصرية وحساسيته في التعامل مع ادوات الرسم. والعملية كلها في النهاية، نوع من التجريد شئنا أم أبينا ذلك، حتى وان كان العمل الفني يشير الى شيء واقعي واضح المعالم.
كلنا كذابون ياصديقي
[post-views]
نشر في: 3 فبراير, 2018: 09:01 م