علي الشوك
أنا أتسلى بشعرنا القديم أحياناً، كلما وقعت بعض نماذجه تحت متناول يدي. أي إنني لا أفكر في قراءته إلا عرضاً. وهذا يعني أنني لست من هواة الشعر.لكن هذا لا يعني إنني ((عدو الشعر))، مع ذلك نحن كلنا محكومون بسطوة محفوظاتنا من الشعر. محفوظاتنا من الشعر تنطوي على الكثير من اللغو، والقليل من الالتماعات الجميلة. لكنني أبحث عن شعر يملأني. لم أجد حتى الآن شعراً يغمرني، مثل لوحة العشاء الأخير؛ ولوحات ڤان كوخ؛ ومثل موسيقى بيتهوفن؛ وشوبان؛ وديبوسي؛ وفن العمارة، بما فيها العمارة الاسلامية. وعلى وجه الخصوص، مثل الأعمال الروائية العظيمة، كرواية الأحمر والأسود؛ ورواية آنا كارنينا... الخ.
دعتني الى كتابة هذه الأكتوبة مجموعة شعرية أرسلتها اليّ دنيا ميخائيل بيد الصديقة فاطمة المحسن. عنوان الإضمامة هو (الحرب تعمل بجد). لم يعجبني العنوان. وجدت كلمة ((تعمل)) نثرية أكثر من اللزوم، ومثلها كلمة ((بجد)). وهذا العنوان لم يشجعني على قراءة المجموعة، فأهملتها أول الأمر، لاسيما وان تجربتي مع الشعر ((الحر)) لم تكن موفقة. أنا أصلاً لا أحب قراءة الشعر. وحتى الشعر الانكليزي الذي ينشر في مجلة London Review of Books لم يعجبني قط. كنت أقرأ سطرين أو ثلاثة ثم أتركه. لكنني أقبلت على قراءة المجموعة بتثاقل.
ولسوء حظ الكاتبة أنني كدت أرمي المجموعة في سلة المهملات لأن كلمات الصفحة الأولى لم تعجبني كثيراً. فالبداية لم أجدها ((شعرية)). جاء فيها ((كم هي مجدة الحرب، ونشطة، وبارعة!)) وقد يسري هذا على ((القصيدة)) الاولى كلها. لم تهزني هذه ((القصيدة)). وأنتم تعلمون أنها قصيدة نثر. لذلك ينبغي لها أن تعجبنا أكثر من القصيدة الكلاسيكية، وما يسمى بالشعر الحر. أنا لم أجشم نفسي عناء قراءة شعر لا يضاهي الشعر الكلاسيكي، أو الشعر الحر، لولا أن الحظ كان مواتياً لدنيا ميخائيل. قلت فلأواصل قراءة صفحة أو صفحتين من هذه المجموعة لعلي أجد فيها ما يشدّني اليها. تجاوزت ((القصيدة)) الأولى الى ما بعدها وأنا متثاقل أو متردد. تعلمون إن القارئ سلطان، يستطيع أن يتنمر على الكاتب المسكين. فما بالكم بكاتب استخف بالأوزان الشعرية، وأخذ يكتب الشعر بلغة النثر؟
(بالمناسبة، كنت أفضل لو قالت دنيا ((تستدر مطراً...)) بدلاً من ((تستدعي مطراً...)) هذا رأي لا أصر عليه، لأن لغة دنيا ميخائيل في المجموعة جميلة وشعرية بحق.
آه، إن الكتابة فن صعب، فكيف لو كانت كتابة شعرية. أنا هنا أجد من السهولة أن أعترض على بعض ماجاء في المجموعة من تعابير. لكنني لا أريد أن أصر على ذلك، لأنني، كما قلت، لم أجد في لغتها عيباً. إن جمال لغة المجموعة في بساطتها. فأنا سأجد لذة في بساطتها وفي ما تنطوي عليه المجموعة من لغة ساخرة أو هازلة مبطنة. وقد بدأت لغة المجموعة الهازلة تعجبني.
أوه، بدأت هذه الشاعرة تفرض عليّ إعجابي بها. فالقصيدة الثانية شدتني إليها، أنا الذي لا يعجبني العجب. وما ذاك إلا لأن دنيا ميخائيل أصرت على أن تلقنني درساً بأن الشعر ليس في الأوزان والكلام المنمق.
إنني الآن أواصل قراءة شعر مفرط في سذاجته، لكنه جميل جداً. شعر من نمط آخر، مبتذل، لكنه مذهل في جماليته النافرة.
أنا تركت اهتمامي بالشعر منذ زمن. وبقيت أتسلى بأبيات أحفظها، مثل:
أنا عندي من الأسى جبل
يتمشى معي وينتقل
ومثل:
كانوا برود زمانهم فتفرقوا
فكأنما لبس الزمان الصوفا
ومثل:
قصتي أعظم قصـة
صــارت الظبيـة لصـة
سرقت كأس مدامـي
وامتصاصي منـه مصـة
خبـأتـــه فـي مـكان
فـي فـؤادي منـه غصـة
لا أسميــه وقــاراً
للخليفــة فيــه حـصـة
ومثل:
خبَروني أَن سلمى
خرجت يوم المصلى
فاذا طير مليح
فوق غضن يتفلى
قلت من يعرف سلمى
قال ها ثم تعلى
قلت ياطير ادنُ مني
قال ها ثم تدلى
قلت هل أبصرت سلمى
قال لا ثم تولى
لكن كل الذي أحفظه ولا أحفظه شعر منطقي. ثم جاءت دنيا ميخائيل ورمت في وجوهنا شعراً من طراز آخر، أطرف ما فيه انه لا يكاد يختلف عن الهذيان، لكنه ليس هذياناً. فالشعر الذي نعرفه يخاطبك بلغة تتوقعها. أما شعر دنيا ورفاقها الآخرين فهو يفاجئوك بلغته غير المتوقعة. هل قلت هذياناً؟ كلا، إنه شيء آخر يقترب من الكلام اللامسؤول، كلام إنسان غير جاد.
إن ميزة هذا الشعر هو إنك لا تتذكره. إنه شعر يزول من ذاكرتك، لا تشعر له أثراً. وهذه حسنة، لانك تشعر كلما أعدت قراءته إنه شعر جديد.
كنت أريد أن أتطرق الى ذكر أبيات ذات إشكالية، وهذا لم يشجع طه حسين على ذكرها في سياق حديثه عن الشعر الجاهلي المنتحل، الأبيات هي، أو هما بيتان في واقع الحال:
يتمنى المرء في الصيف الشتا
فاذا جاء الشتا أنكره
لا بذا يرضى ولا يرضى بذا
قتل الانسان ما أكفره
هذان البيتان ينسبان الى امرئ القيس. وسيصبح الأمر هنا واضحاً لماذا لم يتطرق طه حسين الى ذكرهما.
وفكرت في مراجعة موقفي من الشعر الخالي من الوزن والقافية. وأعدت قراءة مجموعة دنيا ميخائيل (الحرب تعمل بجد). وحاولت أن أتبين مواطن الشعر في هذه المجموعة.
هذه الشاعرة جعلتني أنسى تأريخ علاقتي بالشعر. طبعاً هي لم تكن رائدة. هناك شعراء آخرون تخلوا عن الوزن والقافية. وأنا لم اقرأ إلا لبعضهم، وهذا قصور مني. لكن الصدفة عرفتني بها والفضل في ذلك الى صديقتها وصديقتي فاطمة المحسن. وسأعترف بأن دنيا ميخائيل قدمت لي شعراً آخر، شعراً من طراز آخر. ولأتحدث عن الشعر الجديد، غير الموزون والمقفى. قبل الآن كنت أقرأ نماذج من الشعر الانكليزي الحديث. لم تهزني كثيراً. ولم تهزني النماذج التي قرأتها من الشعر العربي الحديث. ربما لأنني لم أحسن الاختيار، أو لم تقع تحت متناول يدي، لكن شعر دنيا ميخائيل كهربني. نعم، كهربني وهذا شيء لم يحدث معي سابقاً إلا جزئياً في إطار القراءات هنا وهناك، أما مجموعة دنيا ميخائيل فقد كهربتني.
سأكتفي بذكر ((قصيدة)) (صوت). هي كلمات خاطفة، لكنها خطفتني بسحرها:
((أعود، أعود، أعود، أعود، هكذا ظل الببغاء يردد، في الغرفة، التي غادرها صاحبها، وترك الببغاء، وحده، يردد: أعود، أعود، أعود، أعود.))
أهذا شعر، أم سحر؟