سلطت الكثير من الكتب الضوء على التفاصيل الدقيقة لحياة اللاجئين القادمين من شتى بقاع العالم، لتضفي بذلك لمحة إنسانية عليهم. وكان هدفها إيصال رسالة مفادها أن هؤلاء اللاجئين ليسوا أرقاماً وأعداداً يتم تداولها في نشرات الأخبار، بل إن كل واحد منهم له قصته المميزة، وسبباً مختلفاً دفعه إلى ترك بلده واختيار الغربة. ومن الكتب من يشير الى أن اللاجئ ليس بالضرورة أن يكون مشرداً فقيراً، كما يحلو لبعض وسائل الإعلام تصويره! حيث بينهم فنانون ومثقفون وأكاديميون وحرفيون ماهرون وصناعيون وتجار وغيرهم الكثيرون اضطرتهم ظروف مختلفة إلى مغادرة أوطانهم، وأحيانا بدون عائلاتهم، في رحلة مجهولة لا يعلمون عنها شيئا.
على مدى 25 عاماً، كان الطبيب الايطالي بيترو بارتولو يستقبل موجات المهاجرين التي تصل على شواطئ لامبيدوسا، وهي جزيرة إيطالية صغيرة تقع في البحر الأبيض المتوسط.
ويبدأ عمله معهم بفحص العين، حتى يقرر مَنْ منهم يحتاج إلى عناية طبية وكيف يمكن أن يساعد في تخفيف معاناتهم. ورغم الظروف الصعبة التي عاشوها ، إلا أنه كان يبذل قصارى جهده ليلقي عليهم النكات التي تساعدهم على نسيان أعباءهم ولو للحظة من الزمن .
اكتشف المصور ستيفانو شيراتو بارتولو قصة هذا الطبيب عندما كان يصور الفيلم الوثائقي نار في البحر". الذي رشح لنيل جائزة الأوسكار "وقام باخراجه المخرج الإيطالي جيانفرانكو روسي وقد فاز الفيلم بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي.و تناول أزمة اللاجئين في أوروبا حيث يصور حوداث مريعة شهدتها جزيرة لامبيدوزا الإيطالية ".
كان هذا الطبيب متحمس لعمله. وهو يشغل منصب مدير الخدمات الصحية في الجزيرة، لكنه أمضى معظم وقته وجهوده في مساعدة المهاجرين.
ويقول الطبيب بارتولو "حتى قبل ان تخوض في الأمور السياسية والتفكير في كون مجيء هؤلاء المهاجرين إلى إيطاليا صحيحاً أم لا ، يجب أن ترى بأم عينيك الظروف اللاإنسانية التي يصلون بها ". "فهناك الموتى، والمحروقين من الرجال و النساء، وهناك الأطفال الذين يموتون وترمى جثثهم في البحر، وأول شيء يجب عليك القيام به هو مساعدتهم على عدم الموت
بيترو بارتولو شهد واختبر حالات لم يشهدها أحد من قبل .
وباعتباره طبيبا يعمل في جزيرة لامبيدوسا الواقعة في أقصى جنوبي إيطاليا، فقد كان على خط المواجهة لأزمة اللاجئين منذ أكثر من 20 عاماً. وقد رأى قوارب من اللاجئين القادمين من أفريقيا، وكانت تصل أحيانا بشكل يومي، مكتظة بالأشخاص الذين يتضورون جوعاً، ويعانون من الجفاف، والرعب. ويشير إلى أن هؤلاء هم المحظوظون - فهم لا يزالون على قيد الحياة.
وقد رأى أطفالاً يائسين انفصلوا عن آبائهم وأمهاتهم لأن الوالدين كانوا يعهدون بأبنائهم إلى أي شخص يستطيع المساعدة. وشاهد الشباب الذين تركوا أوطانهم وهم مليئون بالأمل، فقط من أجل الوصول إلى إيطاليا وكيف كانوا خائفين جداً الى الحد إنهم غير قادرين على الكلام. وقد رأى ، نقطة الهبوط الرئيسة في الجزيرة، وهي مكدسة بالجثث.
في الكتاب الذي صدر مؤخراً ويحتوي مذكرات الطبيب بارتولو وصدر بعنوان دموع الملح (كتبه بالاشتراك مع ليديا تيلوتا)، هناك قصص لا يمكن تحمل قراءتها ، وفي الواقع، هناك الكثير في هذا الكتاب الذي يصعب تحمله. ومع ذلك فهو عمل لا ينبغي تفويته.
لا يخفي بارتولو شعوره بعدم الرضا عن العالم الذي نعيشه فهو يقول ("السجون الليبية التي يودع فيها اللاجئون هي معسكرات الاعتقال الجديدة"،: "و الظروف التي يسافر فيها المهاجرون عبر الصحراء والبحر لا تختلف عن ظروف قطارات الموت التي كانت تنقل ضحايا مجازر النازية "). ، ويتميز سرده بانه غني بمشاعر الرحمة والتعاطف والإنسانية.
كما انه لا يخفي غضبه من الظروف التي خلقت المعاناة التي يواجهها، لكنه أيضاً يبدي اعجابه بشجاعة وتصميم العديد من المهاجرين، و كرم العديد من مواطنيه.
نلتقي في الكتاب بالمهاجر الصومالي الشاب حسن الذي رفض التخلي عن شقيقه المعوق، وحمله على ظهره عبر الصحراء إلى ليبيا. وهناك أنوار، النيجيري البالغ من العمر 10 سنوات الذي غادر المنزل بمفرده لإيجاد وسيلة لكسب المال لدعم والدته واخوته الأصغر سناً منه.
وهناك أيضا امرأة إيطالية أنقذت قط أليف محبوب من طفل لاجئ سوداني ثم طارت مع الحيوان إلى ألمانيا (على نفقتها الخاصة) لتعيده شخصياً إلى صاحبته المتلهفة. وهناك أطفال المدارس الإيطالية في بيزا الذين تبرعوا بجوائزهم لشراء ألعاب لأطفال اللاجئين.
وهناك أيضا الطفلة النيجيرية اليتيمة وكان اسمها إحسان – ذات الابتسامة الجميلة جدا الى الحد الذي جعل بارتولو يقترح على زوجته ان توافق على تبنيها
يسرد المؤلف في فصول الكتاب المتعاقبة قصة حياته. حيث ولد في عائلة صياد طيب في لامبيدوزا ، وترعرع وهو يستنشق الهواء المالح ويختبر أسلوب الحياة الريفية في جزيرة كانت أقرب إلى تونس منها الى إيطاليا. وبعد ان تلقى تعليمه تمكن من أقناع زوجته، ريتا - وهي طبيبة ايضا - للانتقال إلى لامبيدوسا.
في ذلك الوقت، كان الاتفاق على العيش في لامبيدوزا يمثل بالفعل خياراً صعباً لريتا. كانت الجزيرة معزولة ولا حياة فيها . ولكن هذا كان قبل أن يتحول وصول المهاجرين الى أزمة. في البداية، كما يكتب بارتولو، كانت هناك حفنة قليلة منهم فقط. "في ذلك الوقت كانت الظاهرة جديدة وكانت الاعداد قليلة ويضيف "لكن كل شيء بدأ يتغير : فقد وصل المزيد من اللاجئين ، مع المزيد من أسباب الفرار من أوطانهم".
وأصبح عمل بارتولو صعباً بطرق لم يكن يتخيلها أبداً، وفي بعض الأحيان كان يبدو وكأنه على وشك تدميره شخصياً ، لكنه تلقى الدعم، كما يقول، من زملائه ، فكان كثير منهم يقدم المساعدة للقادمين.
في عام 2014، يلتقي بارتولو مع المخرج الإيطالي جيانفرانكو روزي، الذي جاء إلى لامبيدوزا ليصور فيلما وثائقيا عن اللاجئين. هذا الفيلم يترشح في عام 2016 لنيل جائزة الأوسكار "". وقد جعله الفيلم يشعر بفرح شديد ويكتب عن ذلك قائلا "لقد كنت أرغب في ذلك بشدة "، ، "فقد كان من شأنه أن يبعث رسالة صريحة لا لبس فيها من شأنها أن تحطم كل الأكاذيب التي دارت حول هذه القضية، وتوقظ الضمير العام، وتفتح أعين الناس".
إلا أن الحزن الشديد أصابه، بعد فترة وجيزة من إنتاج الفيلم، بسبب التشديد على الحدود في جميع أنحاء أوروبا، وأغلاق المزيد من الأبواب أمام اللاجئين.
يقول بارتولو في كتابه :أن ما رآه لم يجعله يفقد الثقة في رحمة الله أبداً . لكنه يقول إنه أصبح محبطاً بشكل كبير بسبب "البشر الجشعون الذين لا يرحمون والذين يعتمدون على المال والسلطة". وهو لا يضع في هذه الخانة ، اولئك المتاجرين بالبشر فقط ، بل يضع أيضا السياسيين والمواطنين العاديين الذين شاهدوا معاناة المهاجرين ولم يقدموا لهم يد المساعدة.
ومع ذلك، فإن كتاب بارتولو بمثابة تذكير قوي بأنواع مختلفة جداً من الاستجابة الإنسانية.لمأساة اللاجئين إن دعوته للتعاطف والرحمة التي يطلقها بالنيابة عن آلاف الغرباء الذين يتدفقون باستمرار نحو شواطئ بلده تجد صداها يوماً بعد يوم . ويمكن للمرء أن يأمل فقط أن صداها سوف يكبر ويزداد تأثيره
عن: كريستيان ساينس مونيتور