TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الجَمَال الذي يُصيبُ بالهذيان

الجَمَال الذي يُصيبُ بالهذيان

نشر في: 29 يناير, 2018: 09:01 م

هل يُصيب الجَمَالُ المرءَ بالهذيان؟ وما الهذيان في الكلام العربيّ
في لسان العرب يقال (جارية مُهْجِرَةٌ) إِذا وُصِفَتْ بالحُسْنِ، وإِنما قيل ذلك لأَن واصفها يخرج من حدّ المقارب الشكل للموصوف إِلى "صفة كأَنه يَهْجُر فيها أَي يَهْذِي"، وهذا ينمّ عن أن الـ (هُجْرَ) يعني الهذيان، من بين معانٍ متعددة، فالهُجَيرة تصغير الهَجْرة، وهي السمينة التامة. وأَهْجَرَتِ الجاريةُ شَبَّتْ شباباً حسناً. والمُهْجِر هو الجيد الجميل من كل شيء، وقيل الفائق الفاضل على غيره؛ قال (لما دَنا من ذاتِ حُسْنٍ مُهْجِر). والهَجِيرُ كالمُهْجِرِ؛ ومنه قول الأَعرابية لمعاوية حين قال لها: هل من غَدَاء؟ فقالت (نعم، خُبْزٌ خَمِير ولَبَنٌ هَجِير وماءٌ نَمِير) أَي فائق فاضل. والهَاجِرُ هو الجَيِّدُ الحَسَنُ من كل شيء. والهُجْرُ أيضاً القبيح من الكلام، وقد أَهْجَرَ في منطقه إِهْجاراً وهُجْراً، وأَهْجَرَ به إِهْجاراً استهزأَ به وقال فيه قولاً قبيحاً [كأنه يهذي ذَمَّاً]. وتكلم بالمَهاجِر أَي بالهُجْر، ورماه بِهاجِرات ومُهْجِرات، وبِمُهَجِّرات أَي فضائح. والهُجْرُ الهَذيان.
وأحسب أننا هنا أقرب لمفهوم الشطح، لأن الهَذَيانُ في لسان العرب هو كلام غير معقول مثل كلام المُبَرْسَم [مَرَضٌ بين الكبد والقلب حسب قدامى العرب] والمَعْتُوه. هَذي يَهْذي هَذْياً وهَذَياناً تكلم بكلام "غير معقول" في مرض أَو غيره، وهَذى إِذا هذَرَ بكلام لا يفهم، وهَذى به ذَكَره في هُذائه، والاسم من ذلك الهُذاء. ورجل هَذَّاءٌ وهَذَّاءَةٌ يَهْذي في كلامه أَو يهْذي بغيره؛ أَنشد ثعلب (هِذْرِيانٌ هَذِرٌ هَذَّاءَةٌ - مُوشِكُ السِّقْطةِ ذُو لُبٍّ نَثِرْ) هَذى في منْطِقه يَهْذي ويَهْذُو.
أما التعبير "جارية مهجرة" أي تصيب واصفها أو عاشقها بالهذيان فإنما موصول بالأيروتيكا، بشكل بالغ الوضوح. ومن هنا يمكن العودة إلى مفهوم الهذيان حسب سيغموند فرويد المربوط عنده باللبيدو. ويعتبره محاولة لـ (لشفاء) من خلال إعادة بناء الواقع الذي وصل إليه الانسحاب الليبيدويّ. وقد ينطوي الهذيان على وضعية تمثيلية représentatif أخرى، كونه يحمل تمثيل الحالة الداخلية للذات (الواصف أو العاشق الهاذي بالجَمَال في حالتنا)، حالة لا تدركها الذات (العاشق الواصف) بشكل مباشر، لكأنه في خضم شعور قياميّ (نهاية العالم) الذي يصير استعارة لحالة الكارثة الداخلية التي ينقلها الهذيان إلى "العالم الخارجيّ". يستعيد فرويد التماثل الكلاسيكيّ، الحاضر منذ عصر النهضة، الذي يوحِّد الحلم بالهذيان. وهنا أيضا مناسبة لوصل (جمال المرأة المُهْجِرَة) بالحلم الخارج عن نطاق الحلم غير المنطقيّ المعتاد إلى نطاق الهلوسة.
لكن (الجارية المُهْجِرَة) بالغة الجمال التي يخرج واصفها من حدّ المقارب الشكل للموصوف إِلى صفة كأَنه يَهْجُر فيها أَي يَهْذِي، إنما يعني أننا في الحقيقة أمام عملية "شطح". لسنا في مقام المفهوم الهذيانيّ (Délire) الفرويديّ تماماً بل إزاء مفهوم الشطح، الخرف (divagation، Delirium).
تراث العشق العربيّ الذي يَصَلُ العشق بالجنون (أشهر ذلك: مجنون ليلى)، ويروى سرديات عن خبل وهلوسة بعض المحبيّن (مصارع العشّاق)، وعشّاق الجمال الخارجين عن الحدّ: كما في قول الخيام:
القلبُ قد أضْناه عِشْق الجَمال
والصَدرُ قد ضاقَ بما لا يُقال (من ترجمة أحمد رامي)، يضع أمام القارئ النبيه، معضلة (الجَمَال) في بعده اللامنطقيّ. الوَلَه الخارج عن الحدّ بالجَمَال، وهو وَلَهٌ جدير وحده بالجَمَال.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram