الحالة المرضية والحالة الابداعية تمتزجان؟ أم إنهما متوازيتا التواصل؟ هل المُبدع شخص طبيعي في تفكيره؟ أم إنه يُعاني من مرض نفسي أدى به إلى ذلك؟ ومن هم المرضى النفسيين أليست هنالك مقولة تذكر بـ "أننا جميعاً مرضى نفسيون" فلماذا يُتهم المُبدعون بالمرض النفسي....
المبدعون والأمراض النفسية/ الأدباء إنموذجاً، كانت موضوع إحدى الجلسات التي أقامها اتحاد الادباء والكتاب في العراق عن اعتزال القاص حسب الله يحيى بعد أن أصدر مجموعته الاخيرة "أصابع الوجع العراقية" ذكر يحيى وقتها أن أسباب اعتزاله جاءت "لأن الأدب أشقاه، فما يخلقه هو على الورق ليتمتع به القارئ، يأخذ الكثير من روحه وجهده وحياته، إنه خُلاصة وجهه وألمه." تساءلت وقتها لماذا قضى هذا الرجل أكثر من 20 عاماً من عُمره متوجعاً ليُمتع الاخرين؟
لكني حين تأملت ذاتي وجدتني مقتنعة تماماً بما قاله يحيى، فأنا أيضاً حين أحاول كتابة مادة ادبية لا استطيع خلقها ما لم أكُن في قمة ألمي، "وقد تكون موت أرواحنا كفيلة بكتابة أجمل النصوص" كما إني حين أكون بحالة مزاجية جيدة سأكون عاجزة تماماً عن الكتابة.
من هنا أيضا استذكر الشاعر النمساوي أرنست هرباك، فمن خلال قراءتنا لسيرة هرباك ستتجسد لنا مقولة الكاتب والمتخصص في مجال علم النفس فيليب ساتديوم في كتابه الشهير " المرض والإبداع" حيث يذكر إن أهم "الخبرات الابداعية مرتبطة بالألم"...
هرباك قضى معظم سنوات حياته في مصحة نفسية،إثر إصابته بمرض خلقي سبب له ألماً نفسياً عميقاً وهذا ما دفعه الى الابتعاد عن مواصلة العمل المهني والدراسة والتواصل مع المجتمع، إلا إنه في فترته التي قضاها في المصح كتب مجموعة من أهم القصائد التي جعلته يُخلد في ذاكرة مُتابعيه وقُراءه.
وهذا أيضاً ما أكده الشاعر نوفاليس، الذي أشار إلى أن أصحاب "الحساسية الأعلى هم أصحاب قوى ابداعية أعلى" وهذا يتماشى مع المدرسة الرومنطيقية الالمانية التي تشير الى أن "المعاناة هي جوهر الابداع"
تستحضرنا محاضرة القاها الدكتور عصام عبد العزيز المعموري المتخصص بالتربية وعلم النفس عن الابداع وعلاقته بالمرض النفسي، مُتخداً من الادباء انموذجاً حيث تحدث المعموري عن فلسفة الابداع وقراءة علمية لنوعية ومستويات الابداع التي أقرها عدد من علماء النفس والسسيولوجيين حيث يجد المعموري أن " نسب علمية محددة لدرجة الابداع في كل شخص مؤكدا إن البشر بشكل عام وواسع لكل منهم خصائص تميزهم في مجالات معينة من الابداع ومن يحوز بدرجات إبداع عليا هو اقل ذكاءً بشكل عام بالجانب العملي."
قد نجد أن القاص والشاعر والفنان بعيداً عن الرغبات المادية، كما إنهم لا يبحثون عمّا يطورهم مادياً على عكس الأشخاص العمليين والمهتمين بالمردود المادي من خلال العمل الذي يؤدونه، ويمكننا أن نتأكد من ذلك من خلال ملاحظتنا لأغلب الشخصيات الإبداعية التي تتوفى وهي فقيرة ومنفية ومنكسرة رغم عطائها الكبير في حياتها."
وعن الألم والإبداع والحالة النفسية للمبدع لا يجب أن نُفوّت هذا الموضوع الواسع دون أن نتحدث عن الكبير فان كوخ، الذي قطع أذنه وأهداها الى حبيبته، والذي كان ختام حياته هو الانتحار، كوخ الذي باع في حياته كلها لوحة واحدة فقط، ولكن بعد مرور 25 عاماً تبينت اهمية ابداعات هذا الرجل...
حياة فان كوخ الشديدة التعاسة عاطفياً هي التي خلقت في لوحاته تلك القيمة الفنية العظيمة، ولأن حاجة كوخ للعاطفة كانت كبيرة قطع أرنبة أذنه وأهداها الى حبيبته التي أخبرته ممازحة أنها تريد أذنه الصغيرة لجمالها..
نعم جميعناً مرضى نفسيين، إلا أن هذه الحالة تختلف بنسبها، وقد يكون المبدع أقرب الى المرض النفسي لعُمق رؤياه وتأمله في هذه الحياة من الشخص البسيط وذي المطامح البسيطة.