قد يحيل عنوان مقالتي هذه على الفور إلى ماكتبه الراحل طيب الذكر ( عبد الوهاب المسيري ) بشأن العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ؛ غير أن واقع الحال أنني أسعى للحديث عن جانب آخر تماماً عمّا قصده المسيري بشأن العلمانية .
تظهر العلمانية دوماً خصيصة ملازمة لعصر مابعد التنوير الأوروبي الذي شاع فيه التبشير بسيادة العقل والعقلنة والتطور الثوري في العلوم الطبيعية وجعل ( الإنسان ) مركزاً تتمحور حوله كلّ الفعاليات البشرية الدنيوية بدل تكريس الذات لطموحات أخروية مؤجّلة ، وقد تكرّس هذا التوجه إلى حدّ باتت فيه المسيحية الأوروبية منحسرة داخل جدران بعض المعابد والأديرة والكنائس العتيقة بعد أن تخلّت عن سطوتها في حياة الناس وبخاصة في حقل التعليم والعلاقات الإجتماعية ، وصار مفهوم العلمانية حقيقة راسخة مرئية على الأرض وفي كافة الأصعدة .
لكن ثمّة ملاحظة ينبغي الإنتباه لها بهذا الشأن : لم تتطوّر العلمانية في حالة نسقية واحدة في عموم البلدان الأوروبية ( لانتحدّث هنا عن الولايات المتحدة الأميركية التي يمثّل فيها الدين عنصراً فاعلاً ومؤثراً في تشكيل الأمة الأميركية منذ عهد الآباء المؤسسين ؛ لكن ذلك حديث آخر ) ؛ فقد شهدت فرنسا - مثلاً - إحتراباً دموياً إنتهى بترسيخ نمط من العلمانية المفرطة التي تتّخذ طابع التدابير القانونية الإجرائية الصارمة ، أما في بريطانيا فتبدو الحالة معتدلة إلى حد كبير ؛ في حين أن الروح المسيحية تبدو واضحة المعالم في الحياة الألمانية في المناهج الدراسية والمؤسسات الثقافية سواء كانت كاثوليكية أو بروتستانتية ، وثمة كنيسة ( إلى جانب مكتبة ودار بلدية ) في كلّ مدينة ألمانية كبيرة ، وهذا هو بعض مواريث المسيحية الألمانية ، وينسّب بعض الدارسين البحاثة هذه الحقيقة إلى أنّ ألمانيا لم تشهد حالة صراعية مقترنة بالعنف بين دعاة العلمنة ومُناصري الأخلاقيات المسيحية ( مثلما حصل في فرنسا المجاورة ) لأنّ أغلب دعوات الإصلاح الديني ظهرت في ألمانيا ، وقاد هذا الأمر لتعزيز نوع من العلمانية الألمانية الهادئة التي تميّز طابع الحياة في الحواضر الألمانية جميعها .
ثمة جانب آخر يدفع لتعزيز العلمانية الهادئة وتقليم أظافرها المتغوّلة : نعرف جميعاً أن بعض عُتاة الحركات الأصولية الوافدة إنّما يستخدمون المزايا العلمانية وسيلة لتسيّد المشهد الأوروبي بقصد الإستفادة من المزايا المالية والإجتماعية والتحوّل إلى قنبلة زمنية ديموغرافية يفكّر هؤلاء المتطرّفون في تفجيرها عندما يحققون إنقلاباً في المعادلة السكانية ، وهنا ستقف العلمانية المتغوّلة غبية عاجزة إزاء هذه الحركات الأصولية لأنّ منظومتها القانونية تمنعها من إتخاذ أية إجراءات معاكسة على الصعيد القانوني والثقافي ، ويدرك الكثير من الأوروبيين الحاذقين أنّ مثل هذه المواجهات الأصولية لايمكن معالجتها بوسائل قانونية وإجرائية مقننة فحسب ؛ وإنما ينبغي توظيف جملة من أسلحة ( الثقافة الناعمة ) التي تحمي الخصائص الثقافية الأوروبية ، وهنا تستحيل المسيحية خصيصة ثقافية ضمن خصائص أخرى وليست جسماً لاهوتياً أو كهنوتياً ثقيلاً مثلما كان سائداً في عصور سابقة .
قد يرى بعض الأصوليين أنفسهم فائقي الذكاء وقادرين على إختراق المنظومات القيمية والثقافية والقانونية العلمانية التي يحسبونها ( هشة سريعة العطب ) ؛ لكنهم واهمون فسيأتي يوم قريب سيدركون فيه أنّ العقل البشري الذي حقّق أعظم المنجزات العلمية والتقنية ليس عاجزاً عن التعامل مع أصولية عنيفة مسكونة بالكراهية ، وسيعرف هؤلاء أنّ العقل البشريّ المُؤنسن بوسعه دحرهم وإن طال الزمن وتعدّدت أشكال المواجهة.
العلمانية الهادئة
[post-views]
نشر في: 27 يناير, 2018: 09:01 م