TOP

جريدة المدى > عام > في البدء: مظفر النواب.. شاعر يقاوم الإمحاء

في البدء: مظفر النواب.. شاعر يقاوم الإمحاء

نشر في: 28 يناير, 2018: 12:01 ص

قي منتصف عام 2011 هاتفني الأستاذ رئيس التحرير ليخبرني أن مظفر النواب في بيته، إن كنت راغباً في إجراء حوار معه للجريدة.. وأي صحفي يرفض هكذا عرض؟.. خاصة وإن الحوار إذا تم، سيكون الأول للشاعر في بغداد، بعد غربة أكثر من أربعين عاماً..
وفي اليوم التالي كنت مع الشاعر الذي أتعبه المرض وترحال الغربة، اعتذر عن الحوار بسبب حالته الصحية ووعدني بحوار مطول في ما بعد قائلاً، إنه بحاجة الى أن يرى العراق لتكتمل الرؤية.. لكنه اقترح أن (نسولف) .. وهذا أيضاً يرضي فضولي.. تواطأ مع خبثي عدد من أصدقائه الذين كانوا معه، في أن نقتنص ما سوف (نسولف به).
قيل عنه: (انه من منطقة شعرية محظورة).. خمسة عقود من الرفض والمكاشفة والقصائد المهربة مثل منشور سياسي.مظفر النواب هبط بالشعر من علياء الاولمب إلى حيث مزاج العامة، أولئك الذين وجدوا في شعره انعكاساً لآلامهم.. هو لم يكتف بذلك بل حمل روحه الشعرية على راحتيه وانغمس معهم في الكفاح من أجل خبزهم وحريتهم.. إنه التجسيد الحقيقي لمقولة الشاعر والسينمائي الايطالي بيير بازوليني ((الشاعر الذي لا يخيف من الأفضل له ان يهجر العالم)).. هو إذاً الشاعر الذي لم يكن يأمل من شعره الخلود المرتجى، بل بما يمكن لهذا الشعر في ان يكون سلاحاً مثل ما هو أغنية للذين يمّمون جباههم شطر الحرية. في حضرة النواب تلاشت هذه الفكرة، فأمام الحضور الطاغي للشاعر بل أمام تاريخ من الكفاح والشعر، ليس أنت من يبادر أو يقرر شكل اللقاء.بعد أن قدمت نفسي إليه.
كان من الطبيعي أن يكون مبتدأ الحديث عن بغداد (ديرته) وهو الذي غادرها شاباً يضج بالعنفوان، وعاد إليها شيخاً كهلاً يستعين بابن أخيه (ضرغام) الذي سرني أن النواب انتفض من غفوته في الطائرة ما إن سمع نداء طاقمها معلناً دخول أجواء بغداد ليتطلع من النافذة مستطلعاً ملامح المدينة التي غادرها مرغماً منذ أكثر من أربعين عاماً.يقول النواب:بغداد مدينة مبدعة، الإبداع ليس للأشخاص، المدن هي المبدعة. بعد أربعين عاماً هل تلاشت صورة بغداد في مخيلتك؟يصمت النواب، وكأنه يتهيأ للرد على تهمة وليس على سؤال.. يقول:بغداد في مخيلتي أبداً .. لم تتلاش صورتها .. على العكس كانت تقاوم الإمحاء وكنت أنا أستعيدها في كل لحظة على مدى هذه السنين الطويلة على مدى هذه السنين الطويلة، وكأني لم أفارقها.. بغداد عالم من الجمال، حتى الزوايا المهملة فيها تضج بالجمال، مدينة تمنحك ألواناً لا تعرفها من قبل.. لديها طيفها الشمسي الخاص...يقول: ابن محلاتها الشعبية ، من درابينها، من دكاكينها.. يستدرك قائلاً لي: انتبه كيف هو لفظ الضمير الغائب الـ(هه) وليس (ها)، قالها بالعامية.أبادره بسؤال قصدت منه أن أقف عند روح شاعر حمل الوطن مثل صليب في رحلة الشعر والنضال. وكان الوطن أمامه حيث ما يقف. أسأله عن تلك اللحظة التي وطئت بها قدمه أرض الوطن، وان كنت أعرف انه سيستطرد مرة أخرى ليحيل الموضوع إلى فكرة أخرى يرى إنها يجب أن تقال.يقول النواب:لقد عاودني كل ذلك العنفوان الذي أعرفه بي، ويعرفه الرعيل الذي عاصر الكفاح من أجل حرية هذا الوطن.
سؤال حيّر الكثير من دارسي شعره، من أين له هذا الالمام بعامية الجنوب وهو ابن بغداد، أقول له انه في الفصحى ينحت بالصخر وفي العامية يشتغل على الطين.أقول له: كنا صغاراً نتسلق السدرة التي عند جدار بيتكم في كرادة مريم بالكرخ لنحظى برؤية آلة البيانو: يبتسم، هذا صحيح أنا ابن الكرخ في بغداد، أسأله مرة أخرى كيف تمكنت إذاً من العامية بلهجة أهل الجنوب لتنظم بها أجمل قصائدك؟يقول النواب: كثيراً ما سئلت هذا السؤال، لكن دعني أقول لك: اللهجة العامية تماماً مثل امرأة منحتني هي نفسها ومكنتني منها.. المرأة لا تستطيع ان تعشقها دون ان تمكنك منها.. العامية سلسة مطواعة، لا تستعصي على النحت والاشتقاق منها..الصورة عنها أجمل وأكثر وضوحاً.. ربما لا يعرف الكثير إنني لست من الجنوب ولم أسكن الجنوب.. ذهبت منتصف الخمسينيات إلى العمارة عن طريق الكحلاء، حيث عشائر (البو محمد والشموس، منهم (محمد الشموس) الذي كتبت عنه قصيدة أعتزّ بها.عشت بالاهوار لمدة أسبوع، هناك عشقت لهجتهم وتملكتني.
انه ليس شاعراً حسب ..فهو مازال يتعالى على مرضه.. فهو أيضاً يقاوم الامحاء، وعدته لذلك ليس سوى حب الشعب الذي تغنى له يوماً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

اليابان تسجل انخفاضا قياسيا في عدد السكان

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram