TOP

جريدة المدى > عام > قصتي مع السيدة اليابانية ((هدى))

قصتي مع السيدة اليابانية ((هدى))

نشر في: 27 يناير, 2018: 12:01 ص

(لدي كارت للتعريف بها بالانكليزية: هدى الخيزران، عضو مرافق أقدم، جامعة اوكسفورد، عنوان الجامعة.)
بعد الانقلاب البعثي الأخير في العراق، 1968. تم تعيين السيد فيصل حبيب الخيزران سفيراً للعراق في طوكيو. وفي ملعب للغولف تعرف السيد فيصل بسيد ياباني من علية القوم. وبعد فترة تم زواج فيصل بابنة السيد الياباني، لعل اسمها كان اوتشيدا. وعندما التقيت بها في لندن، قالت: سمني هدى.

 

إنني أتحدث عن السيدة ((هدى)) بعد وفاتها المحزنة بالسرطان. وكان قد مرّ على ذلك عدد من السنين. السيدة هدى خيزران هي أم السيد خالد الخيزران التي تزوجت من السيد فيصل حبيب الخيزران وانجبت منه ولدين وبنتاً، من بينهم خالد.
فيصل حبيب الخيزران هو ابن شيخ عشيرة العزة في محافظة ديالى في العراق. وهو من أبناء جيلي، لعله يكبرني بعام أو عامين. وأنا وهو ((التقينا)) بالتوازي، ولعل ذلك كان في الاعدادية المركزية في بغداد، في حدود عامي 46-47. وربما منذ تلك الأيام أصبحت أنا يسارياً؛ وأصبح فيصل حبيب الخيزران بعثياً (من بين نخبة البعثيين الكيّسين) لهذا أبعده حزب البعث عن صفوفه منذ مرحلة مبكرة.
وصادف في أواخر عهد صدام حسين أن استأجرت عائلة فيصل حبيب الخيزران دارنا في بغداد، عندما كان فيصل مريضاً قبيل وفاته. وكنت أنا وما أزال في لندن.
كانت ابنتي رباب قد تم تعيينها في وزارة الخارجية العراقية في هذا العهد الأخير. وعن طريق زميلة لها أحب السيد خالد فيصل الخيزران التعرف برباب (وتم زواجهما فيما بعد). وقد اخبرتني ابنتي رباب أن السيدة ((هدى)) خيزران (أم خالد)، وكانت مقيمة في لندن، علمت بوجودي في العاصمة البريطانية، فأحبت التعرف بي. فالتقينا في مقهى في منطقة ايلنغ. لم تكن هناك صعوبة في الاهتداء اليها، لأنها يابانية الملامح على نحو لا لبس فيه. وأنا تبينت ملامحها فوراً، وتم اللقاء. يا إلهي، ما أروعها بزيّها الياباني الخالص. فكنا، أنا وهي، محط أنظار زوار المقهى الانكليز. وكانت هي سيدة مذهلة بملامحها اليابانية الصارخة. إنني أكتب هذه بأسى، لأن السيدة هدى سرعان ما اختطفتها يد المنون بعد ذلك اللقاء.
قالت: ((سمني هدى. وكان يسعدني أن تلتقي بزوجي الراحل، فيصل، والد ابني خالد. تعلم اننا أقمنا في منزلكم في بغداد. وأنا أنهيت دراسة الدكتوراه من جامعة اوكسفورد في دراسة اللغة العربية.))
لم نتحدث بالعربية، بل بالانكليزية. وكنت أنا ما أزال منبهراً بزيّها الياباني الذي بقي موضع فضول رواد المقهى. كانت تعلم أني كاتب. وأخبرتني بأنها تفكر في ترجمة شيء لي الى اللغة اليابانية.
أخذت العلاقة بيننا تتطور الى علاقة عمل. فالسيدة هدى تفكر في ترجمة جديدة للقرآن الى اللغة الانكليزية. وصارت تعتقد أننا كلينا، هي وأنا، نصلح لهذه المهمة اذا تصدينا للمشروع بصورة مشتركة. وسألتني، ربما على سبيل الاختبار، كيف أترجم الآية الآتية الى الانكليزية: ((واعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا.))
ضحكت أنا، وقلت: ((أنا لم أجرب الترجمة من العربية الى الانكليزية.))
قالت: ((لا يهم، جرب، ثم انك كاتب.))
ضحكت أيضاً، وفكرت في الآية، ثم قلت بلا إبطاء:
((Take refuge in god, and do not disperse.))
صفقت لي، وقالت: ((أنا لم استطع ترجمتها، لأنني فكرت في المقطع ((حبل الله))، ولم استطع ترجمته.))
قلت لها: تعلمين أن الترجمة فن. هنا في هذه الآية، إن الفكرة الاساسية فيها هي الاعتصام بالله. وجاءت في العربية بصورة رمزية، هي الاعتصام أو التمسك بحبل الله. وليس من الضرورة الالتزام الحرفي بحبل الله. إن حبل الله هنا يراد به شيء للتشبث به. الفكرة هي أن يجد البشر ملجأهم عند الله. لهذا فكرت أنا في مسألة اللجوء : take refuge.
((طيب،)) قالت ((ومارأيك بالآية الآتية : ((وماتوفيقي إلا بالله.))؟
تأملت هنيهة، ثم قلت :
((My good fortune is but from god)) ثم قلت كلا، أنا لا أصلح لمثل هذه المهمة، لا أصلح بتاتاً، أعني الترجمة من العربية الى الانكليزية.
ايتأست السيدة لاعتذاري عن مواصلة العمل. هل كانت تروم ترجمة القرآن (بالتعاون معي) الى الانكليزية. إنني لست مؤهلاً لذلك على الاطلاق.
لكن كانت مسرورة بهذا التواصل أو الحوار الفكري بيننا. فمن الفرص النادرة أن تلتقي بكاتب . لكنني أنا، من جهتي أيضاً، إهتبلتها فرصة في الحوار مع ((مثقفة)) يابانية. فقبل أشهر لجّ معي هوس ياباني، ورحت أبحث عن كتابات يابانية. فقرأت أكثر من رواية مترجمة الى الانكليزية، من بينها Norwegian Wood للكاتب الياباني هاروكي موراكامي.
كانت هدى قد طلبت مني أن تقرأ شيئاً من كتاباتي. فرشحت لها الاطروحة الفنطازية؛ وفتاة من طراز خاص، وهي رواية ستجد فيها ما يشدها الى قراءتها، لأنها تعالج موضوعاً فيه أجواء يابانية.
لا أذكر ماذا كان رأيها بالأطروحة الفنطازية. وأنا يهمني هنا أن أتحدث عن (فتاة من طراز خاص). أنا كتبت أكثر من عشرين كتاباً. وأستطيع أن أذكر من بينها باعتزاز الاطروحة الفنطازية، والدادائية، وأسرار الموسيقى، وتأملات في الفيزياء الحديثة، والاوپرا والكلب، وفتاة من طراز خاص. إن بعض هذه الكتب، وبعض ما لم أذكره سيبقى، في رأيي، من بين المؤلفات المتألقة في الأدب العربي. لكنني لا أدري لماذا لم يأخذ كتاب (فتاة من طراز خاص) حقه من الاهتمام والتثمين. انا اعتبره من بين أجمل وأعز كتبي. لكنه نال ثلاث درجات في الانترنت في تقييمه. وهذا تقييم غير منصف بالمرة، ويجعلني أشكك في كفاءة المقيمين. وكان أخي أمين الشوك، وهو يمارس الرسم بكفاءة، وذو ذهن متوقد في أحكامه النقدية، يتوقع أن يترجم هذا الكتاب الى لغات أخرى.
ولعلي أنا أسئت الى هذا الكتاب دون قصد مني طبعاً. فقد كتبت تعريفاً بهذا الكتاب على غلافه الخارجي لعله اعطى انطباعاً بأنه كتاب جنسي. فقد ذكرت في هذا التعريف أن بطلة الرواية ندمت ندماً شديداً بسبب استدراجها من قبل عشيقها – كانت متزوجة – الى ممارسات جنسية لا تليق بها. ولعل السيدة ((هدى)) حصل عندها هذا الانطباع الجنسي عن الرواية أيضاً. وربما اكتفت به ولم تقرأ الرواية بهديه.
هذا في حين أن الرواية كتبت كأطروحة في الفيزياء، اذا جاز لي القول. فأنا كنت أريد أن أكتب عن بطلة متألقة في الفيزياء. ودخلت في تفاصيل مهمة وجميلة حول ذلك، من خلال الحوارات والنقاشات بين ابطال هذه الرواية، وفي مقدمتهم بطلة الرواية شهرزاد. آه، إن المناقشات حول ميكانيكا الكم؛ وحول نظرية الانفجار الكبير، تبهر الأنفاس حقاً. وهي مناقشات تنطوي على جانب كبير من الأهمية والخطورة. فالبطلة شهرزاد تتبنى موقفاً مخالفاً لموقف المؤسسة العلمية الرسمية في موضوع ميكانيك الكم؛ وحول نظرية الانفجار الكبير. وأنا هنا تابعت او ناقشت هذا الموضوع عن دراسة جادة، ودراية معمقة، وهي تعكس مدى التصاقي بموضوع الفيزياء. فأنا اعتبر علم الفيزياء يمر بأزمة، وسواء اعترفت المؤسسة العلمية الرسمية بذلك ام لم تعترف به، فإن طرحه على بساط البحث ينطوي على أهمية كبيرة.
والرواية غنية في أشياء كثيرة أخرى. وأنا أدعو القراء الى قراءتها. إن هذا لا يمنعني من الاعتراف بأن الرواية كتبت لقراء مثقفين. لكنها تبقى رواية جميلة مشوقة. وتبقى عندي من بين أفضل كتاباتي.
بعد هذا الاستطراد، أعود الى قصتي مع السيدة اليابانية ((هدى))، التي أظنها ذكرت أن اسمها الياباني كان اوتشيدا. لربما كانت ((هدى)) اكثر انسان افتقد صحبته، باستثناء الصديق الراحل نوري السعدي. وأنا لا أزال أذكر بالتياع جلساتي معها في مقهى Café Néro. إن أكثر ما لفت اهتمامي بها هو حبها اللغة العربية، وانبهارها بلغة القرآن. وكم كنت أود أن يتم تواصلنا وحوارنا حول هذه المواضيع، لكنني، كما ذكرت، لم أكن مؤهلاً للحوار بشأن لغة القرآن.
تحيتي الى ابنها خالد الخيزران، زوج ابنتي رباب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ترامب: زيلينسكي غير مستعد للسلام

حكمان عراقيان لقيادة نهائي كأس آسيا للشباب في الصين

إيران تعلن الأحد المقبل أول أيام شهر رمضان

وزير الكهرباء الأسبق: استيراد الغاز من إيران أفضل الخيارات

اليابان تسجل انخفاضا قياسيا في عدد السكان

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram