-1-
جاذبية الذاكرة باطنية الجوهر، تأخذ بيد المبدع إلى العالم المستتر للتاريخ، ولعالمه الشخصي. نصف ظلية، تتمتع ببعدي الزمان والمكان، ولكن على هوى لا معيار فيه، تماماً كهوى المخيلة. جاذبية المخيلة من جانب آخر، تأخذ بيد المبدع إلى الإنفلات من قيد الزمان والمكان. ولكن هواها الذي لا معيار فيه، يرتبط بصورة مشيمية بهوى الذاكرة ذاك. لا مخيلة دون دعم من الذاكرة. ولذلك قد تصبح المخيلة لدى المبدع، دون ذلك الرابط المشيمي، ضرباً من الهرب من الذاكرة. يلوح ذلك الهرب كشائبة أحياناً فيضعف بمقدار، وأحياناً يتمتع بالهيمنة التامة، فيصبح أُلهية ذهنية أو لفظية.
رواية "حبات الرمل...حبات المطر" لفلاح رحيم (دار الجمل 2017، 600 صفحة) مائدة دسمة، تستثير الشهية لتناول محاور عدة، بشأن مأزق المثقف العربي (والعراقي بشكل خاص) الذي تولده علاقته بالأفكار (والأفكار الغربية المترجمة بصورة خاصة)، وتوزعه بين الواقع الحي والمثال المجرد، بين الذاكرة والمخيلة.
الرواية في قسمين كبيرين يتوسطهما قسم صغير وسيط. تعتمد السيرة الذاتية كما هو واضح، عبر تجربتين يخوضهما شاب في مطلع العشرينيات من عمره، في عراق البعث: تجربة الحب الجامعية، ولك أن تقول تجربة الجامعة العاطفية، وتجربة الجندية الإجبارية. وعبرهما تتعرف على علاقته الحميمة مع عائلته، وعلاقته القلقة مع كل من نفسه، وحبه لهدى، وانتسابه للحزب الشيوعي العراقي. والبطل "سليم" متوقد الذكاء، كثير القراءة في حقل الفلسفة خاصة، يدرس الانكليزية ويُحسنها. إنه نموذج للمثقف، في مطلع الشباب، الذي يظل يتأرجح بين الحياة الأرضية التي تمثلها العائلة، الأصدقاء، وبين الأفكار التي يستقيها من الكتب. ومن كليهما تنمو وتتطور تجربتان تأبيان على التوحد. الانتساب الحزبي بدوره يعزز هذا التوزع، فهو يضع الفرد بين حياة الرفقة الأرضية بمصالحها المعقدة، وبين الأفكار اليقينية التي هي محض تطلعات صافية، عادة ما تكون في أغلبها إيهامية.
هذه الصيغة من التمزق وجدناها لدى الستينيين بصورة واضحة، مستسلمة لليقين. في حين سنجدها في الجيل الثمانيني، كما هي في هذه الرواية، متشككة، مختنقة وتبحث عن حل. والسبب كامن في أن الجيل الستيني قطع شوطاً يقينياً مع معتقده (قومي/ أممي)، ثم حلت به خيبة عميقة بعد انقلاب 63 الدامي، وبعد الانقلاب الناعم على انقلاب 63. في مرحلة العارفَيْن خبرَ الستيني حياة هادئة، دون سلطة عقائدية. وضع مُعتقده السياسي في المقهى إلى جانبه، وانشغل بالأدب والفكر الطليعيين، اللذين يأتيانه مترجماً من الغرب. هذا الانشغال خلخل التوازن لديه، بين الذاكرة (التي تنطوي على الموروث المعرفي والخبرة الشخصية)، وبين المخيلة (التي هي محض تطلع إلى ما يمليه المستقبل الإيهامي وحده). بين انتسابه كإنسان للمكان وللزمان اللذين هو فيهما، وبين انتسابه لما يمليه عليه سحر ذاك الأدب والفكر الوافدَيْن كمياه الربيع. ولكن الستيني كان متطامناً مع خلخلة التوازن هذه، بالرغم من أنها خلخلة بالغة العمق وخطيرة، بحيث مكّنته في أحيان كثيرة من القطيعة مع الذاكرة تماماً، بحيث أدخلته غديراً دافئاً من انفصام الشخصية، فهو حر في لعبة الأدب والفن والفكر، بعيداً عن السلطة، أو أن السلطة كانت بعيدةً عنه، والبلد في سلام، والحياة ماشية. في حين كان الثمانيني، بالرغم من طمعه في الانتساب للأدب والفكر الغربيين، يقطع سنوات العمر في وحل حياة من هيمنة الحزب الواحد، والدكتاتور المثير للذعر، والحروب الدموية المتواصلة. كان على تماس جسدي وروحي مع الهلاك. ولذلك، وبسبب هذا التماس مع الهلاك، لم يكن متطامناً، كما كان الستيني، مع هذه الخلخلة التي أوجدها هذا الاستلهام للفكر الغربي.
الرائع في الرواية، إلى جانب إمتاعها بنثرها الحيوي، ونمو أحداثها المتباطئ، وزحمة لحظات التأمل، أنها تقدم عينة مكثفة، تصلح على كثيرين ولكن بنسب من الكثافة متفاوتة، من مثقفي العقود الثلاثة الأخيرة. وبالرغم من الشك في خياراته، وهو ما يميزه عن الستينيين، إلا أنه مُعرّض هو الآخر لحالة الانفصام، بفعل ثقافة غائمة الجذور وغريبة، تُملي عليه يومياً إكسير معرفة يشبه إكسير الحب، يجعله يعيش في بحران نشوة يقف أمامها كل وجوده الأرضي مندهشاً فاغر الفم.
-2-
"سليم"، بطل رواية "حبات الرمل..حبات المطر" لفلاح رحيم، بقي نازفَ الجرح بسبب عجزه عن إعلان حبه لمن يحب طوال سنوات الجامعة الأربع، وعجزه عن توفير توازن مقنع بين انتسابه للحزب وبين حرية فكره التي يتطلع لها، بين الحياة التي هي خلطة بالغة التعقيد من الخير والشر، يتعلمها من العائلة، الأصدقاء، الجنود في عفويتهم السوداء/ البيضاء، وبين العقيدة اليقينية التي يجسدها المسؤولون الحزبيون. إنه يحدق في الخلخلة حائراً ولا يملك أن يتخذ القرار. وأعتقد أن السبب كامن في أضطراب البصيره الذي يمكن أن يُريه بوضوح أن استسلامه لثقافته النقدية الغربية هي السبب. فبدل أن تكون هذه الثقافة مصدرَ معرفة يدخل مصفاةَ وعيه المحكومةَ بزمانه ومكانه، كما حدث مع أجيال النهضة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، صارت معياراً متعالياً لوعيه. هذه الثقافة التي ولدت ونشأت ونضجت وماتت، ربما، في تربة حضارة الغرب التي لا شأن لها بسليم، ولا شأن له بها.
هناك إضاءة أمل تشرق في وعي البطل أحياناً بسبب العلاقة القلقة مع نفسه. "عالمي الممزق بالأسئلة ودواعي القلق والطموحات المتنافرة التي يقتل بعضها بعضاً." (ص212)
وأحيانا تكون الإضاءة شائبة بشأن انقسام عالمه: "بدأت أميز بين حقلين في حياتي هما فضاء التلقائية الذي لا يخضع لأحكام العقل، وهو ينتهي بي أينما وليت وجهي إلى هدى، وحيز خدمة الفضيلة والعدل الذي لا يهدأ ضميري إلا إذا حشرت نفسي في ممراته الضيقة الخالية من كل أثرٍ لهدى. كان يثير قلقي أن يكون الحقلان متباعدين إلى هذا الحد، بل هنالك ما يشبه الانقطاع التام بينهما."(ص174)
قلت إضاءة شائبة لأن "أحكام العقل" هنا هي "أحكام العقل الغربي" داخل استيهام المثقف "سليم"، وليس "العقل" الذي نضج عبر مصفاة ثقافة وخبرة شخصيتين. وهذا ما تشي به الرواية في كل حين، وما لا يريد بطل الرواية أن يعترف به. لنتابع هذه الشواهد: "لكن محسن بدأ يقرأ بعض الكتب الماركسية، أقنعني دون عناء بأن للوجود كما للشعر وللتنويم المغناطيسي قوانين لا فكاك منها وهي مهما بدت جافة وصعبة المآل واجبة الطاعة.."(ص39) " وهي أمور (يعني الزواج وإنجاب الأطفال والنجاح) لا يعيرها مُشرق أي اهتمام. أعتقد أني كنت أقربَ الطلبة إليه، وربما كان السبب ما أظهر جان بول سارتر في السنوات الأخيرة من ميل إلى الماركسية.."(ص64) "فعقيدتك القلق الوجودي وهي لا تختلف عن العقائد الأخرى التي نحاول أن نفهم بها العالم."(ص65) "لكن هنالك سجناء المستقبل.. سأسميهم العدميين. والعدمية من الأمراض الخطيرة التي ظل يعاني منها الفكر العالمي منذ صيحات نيتشه اليائسة في القرن التاسع عشر."(ص72) "المنتعشة أبداً بصفاء وجهها ومزاجها والتي تذكر كل من يراها بحقائق الصراع الطبقي الفكتورية النموذجية التي ألهمت ماركس نظريته.."(ص84) "عجبتُ للطريقة التي قرأ بها القصيدة. قلت: ـــ هل تعتقد أنها قصيدة حب؟ ـــ هنالك قول لأنطونيو غرامشي مفاده أن الحياة بدون حب أشبه برياضيات مجردة جافة."(ص96) "-متْصيرِلْكم ﭽارة -. لكني سأحاول أن أوضح لك علّك تفهم مشكلتي. أنا مُصاب بعلة المركيز دي صاد التي حللتها بعمق سيمون دي بوفوار."(ص132) "هل أنتِ علْويّة؟ قلتُ لا فقالت لي ولصديقاتي هذا الوجه الوضاح لا يليق إلا بعلوية مباركة. شكرتُها بعمق.. ضحكت أنا أيضاً وقلت معلقاً: ــــ لا تلوميها. قرأت ذات مرة قصة سوفيتية عن رجل ينتظر مولوده الأول خارج القاعة قلقاً.. قامت هدى دون أن تعلق."(ص173) "حدثني شهاب عن قراءته لفلسفة هيغل. كان حديثه عميقاً مؤثراً تركزَ على مساعي الذات إلى تحقيقِ وعيٍ بذاتها ينفتح على ما في العالم الخارجي من سلب.."(ص187) "إن هدى مستعدة للإستجابة وإن المشكلة يلخصها قول لسنت أكزوبري.."(ص201)
لن أعتبر هذه الشواهد مآخذ في رواية تمتد بمتعة وسلامة لستمئة صفحة، لأنها تنقل ما كان يحدث في حوار مثقفي تلك المرحلة حتى اليوم بصدق. إنها تسلط ضوءاً حقيقياً على مأزق البطل، أو مأزق المثقف العربي (والعراقي خاصة) الذي انتهى في العقود الأخيرة إلى ضرب من الشيزوفرينيا الثقافية.
-3-
بادرة الأمل في مثقف رواية فلاح رحيم "حبات الرمل..حبات المطر" أنه أحس عميقاً بالمأزق. أحس بالخلخلة في التوازن المطلوب بين الذاكرة والمخيلة. في معرض الحديث عن الشاعرين الرومانتيكيين وردزورث وكوليرج قرأت لأحد النقاد قوله بأن المخيلة بالنسبة إليهما تُحضر البهجةَ إلى القلب، والذاكرة قلعة حصينة للروح. وهذا الرأي تؤكده الخبرة الشخصية. إن المخيلةَ خيارٌ بالغ الأهمية، ولكن الذاكرة ضرورة. يصح هذا على الانسان العادي، وعلى مبدع الكتابة. الذاكرةُ دون مخيلة تصبح تاريخاً تسجيلياً، والمخيلة دون ذاكرة تصبح تهياماً ذهنياً ولفظياً. إن العقل، الذي ينعم بمسرات الفكر والأدب الغربيين مقطوعاً ثقافياً عن فاعلية الذاكرة الشخصية أو الجمعية، مُعرّض لفقدان التوازن، فهو أشبه ببالونة دُخان ملونة أبداً في ابتعاد، حتى لو كان صاحبها يمسك بها بخيط. مع أن العقل الذي ينعم بغنى الذاكرة في ما هو شخصي من حياته، وفي ما هو ثقافي من تراثه، قد يحقق توازناً حتى لو انفرد بذلك. لأن الذاكرة الغنية، هذه القلعة الحصينة، ستزدحم بالإيحاءات الخيالية.
قلت إن بطل فلاح رحيم قد وعى ذلك، ولكنه عجز عن إيجاد الحل. لأن هذا البطل عاش حياة داخل عتمة السلطة القمعية، ومعرضة للهلاك. فهو لا يملك أن يكون دائم التفرغ، وبطمأنينة، للغرق في بحران بالونة الدخان الزاهية، أو في سحر إكسير الحب الإيهامي، الذي كان يُلهمنا في الستينيات من داخل الشاشة الفضية عبر الأفلام الغربية. مع أننا كنا، حين نترك السينما، نخرج إلى حياة قاحلة، بالمقارنة، تعركُنا فيها المظالم، وظمأُ الحب والرغائب. ولكن هذه المفارقة لم تكن مفتاحَ بصيرة ووعي، كما يمكن لأحد أن يتوقع، بل كانت حاضنةً لشيزوفينيا ثقافية مثيرة للرثاء.
عدد كبير من نتاجات الستينيين آنذاك، وحتى اليوم، ظل يزخر بزبد هذه الشيزوفرينيا الثقافية: فواحدهم يعيش حياة يومية أرضية، مع النفس والآخر، أو حياة منفى غربي ولكن في معزل عنه داخل "كيتو" المهجر، لا تمسها الحضارة الغربية بلمسة أظفُر، في حين يغرق عقله وروحه، أو هكذا يتوهم، في بحران ثقافة تنتسب لحضارة بالغة التعقيد، بالغة الغنى، بالغة التطور عبر قرون ستة. جسدٌ واحد ينطوي على كيانين متعارضين، متنافرين. هذه الحالة حفّزت كثيرين على الكتابة الإيهامية، ولكنها عطّلت كثيرين عن الكتابة أصلاً. أستثني من هذا المصير كُتّاباً كانت حياتهم الثقافية معبأة بذاكرتهم الشخصية، وبتراثهم الثقافي العربي القديم والحديث.
أصدر فاضل عباس هادي، وهو "سوريالي" ستيني مُقل، مؤخراً كتاباً بعنوان "لمسات ورّاق فرنسي الهوى" (شُبّر للطباعة، لندن 2017)، قد يبدو لكثيرين بالغَ الغرابة لأهوائه المتطرفة، ولكنه لم يكن كذلك بالنسبة لي. فلقد شغلني الجيل الستيني العراقي والعربي منذ مرحلة مبكرة، وضم هذا الشاغلَ أكثرُ من كتاب نقدي (ثياب الامبراطور، يوميات نهاية الكابوس، تهافت الستينيين، إضاءة التوت وعتمة الدفلى، شاعر المتاهة وشاعر الراية، ومئات من عمودي الأسبوعي في الصحافة الثقافية). فاضل في شخصه وكتابه عينة دالة على هذه القطيعة الستينية مع الذاكرة، الأمر الذي عطّله عن الكتابة، إلا ما ندر، حتى الخامسة والسبعين من العمر. وكتابه هذا، وفاضل يَعِد بجزء ثان منه، ليس إلا بياناً يعرضُ فيه هذه القطيعة ويكشف بعض ثمارها. وهو في شخصه صديق وديع هادئ الطبع، من النادر أن ألتقيه ويلتقيه غيري ممن أعرف في لندن. يحب الكتب، وقد عمل "وراقاً"، كما يحب أن يصف نفسه، في مكتبة بباريس وأخرى بلندن، ويحب الفوتوغراف. وهو يُحسن اللغتين الفرنسية والإنكليزية، بدأهما في وقت مبكر في الناصرية، مدينة مولده ونشأته الأولى. أقام في لندن قرابة 35 عاماً، وفي باريس قبلها، وفي بيروت قبلهما. يقيم في بيت منحته إياه البلدية في قلب لندن، وله، شأن أي مواطن بعمره، راتب تقاعدي يسدّ الحاجة. إلى جانب الطبابة المجانية وأدويتها. مواصفات يحسدها عليه كل مثقف عربي، أو عراقي، يقيم في المنفى أو في بلده. ولكنك لم تقع له على كتاب من تأليفه في شؤون الثقافتين، موضوعاً أو مترجماً، أو كتاباً نثرياً أو شعرياً من إبداعه، على هذه الخلفية التي يُفترض أن تكون ثرّة، ولا على معرض فوتوغرافي، ولا على ما تجتهد به خبرتُه التي بهذا الامتداد والتنوع. أين يكمن السبب؟ كتابُه هذا يجيب عن ذلك دون لبس، وإن بصورة غير واعية.
-4-
كتاب فاضل عباس هادي "لمسات ورّاق فرنسي الهوى" ينطوي على كل علل استئصال الذاكرة والانقطاع إلى المخيلة. وفي هذا تكمن علة تعطله عن الانتاج، وارتمائه في أحضان المخيلة المجانية والإيهامية. فأنت لا تقع، في كتابه الذي ينتمي إلى فن المذكرات الشخصية، على أثر من شخصه كإنسان، منذ ولادته ونشأته في الناصرية، وسنواته في بغداد، وسنوات منفاه الطويل في بيروت، باريس ولندن. ولا تقع على أثر من موروثه الثقافي العربي القديم والحديث، العنصر الثاني للذاكرة. بين حين وآخر يشير إلى أنه يعشق العربية عشقه للفرنسية، "شقيقتها بالرضاعة"، كما يحلو له أن يقول. ولكن عربيته لا تشفّ عن دليل واحد لهذا العشق. فعلاقته بالكتاب العربي القديم والحديث معدومة، إلا إذا كان مُترجماً، ونثره بالغ الضعف، تتزاحم فيه الأخطاء. والشواهد الشعرية النادرة التي ترد عرَضاً على لسانه ليست سليمة، (كأن يروي، عن جهل واضح بالموضوع، البيت التالي للأصمعي: "يُداري هواه ثم يكتمُ ويخضع في كل الأمور ثم يخشعُ" ص89). (أو من أغنية لأم كلثوم: "وأسأله سرَّ ذلك الجوى/ فقالوا حنانك من شجوه/ ومن جدّك به أو لهوه.." ص187). (أو البحتري: "قل للقاعدين على هوانٍ إن ضاقت بكم أرضٌ فسيحوا" ص200). ولا تقع على استعادة عطوفة، بعد كل هذا الاغتراب الطويل، لبيت ميلاده ونشأته في مدينته الجنوبية، لعائلته، ولعراقه جملةً. ولا استعادة لصديق عراقي أو عربي مقرّب. هؤلاء، عنصر الذاكرة الثالث، لا يشكلون لدى فاضل غير هواء في شبك، كما رأيناه في استئصال شخصه كإنسان، واستئصال موروثه الثقافي العربي. مرة واحدة ترد مفردة "ذاكرة" ولكن بأي سياق؟: "تكلمي أيتها الذاكرة وهو يعود بها أو هي التي تقوده إلى ملاعب الصبا. مقهى في باريس تُطل على ساحة الباستيل. كان ذلك في أواسط السبعينيات. سارتر مايزال حياً.." (ص34) ملاعب الصبا في باريس هنا وليدة مخيلة إيهامية، شأن كل سنوات المنفى المستعادة، وعناوين الكتب الميتعادة في ذهن المنفي، حين يستأصل ذاكرته لعلةٍ من العلل.
إن انصرافَه التهيامي، الخيالي المطلق لثقافة الكتب الغربية أنهى لديه أيّ توازن في كيانه كمثقف. وشواهد الانفصام الذي ينتجه انعدام التوازن هذا تنتشر على صفحات الكتاب كالثقوب. فهو الذي قطع الوصل مع ذاكرته ينتسب بالمخيلة المجان لثقافة غريبة تملك ذاكرة خاصة بها ،بالغة العمق في زمانها ومكانها. ولذلك يبدو بالنسبة لها، هذا القادم بلا ذاكرة، كالهوام حول مصباح الليل. يكرر الزعم بأنه يعشق لغته العربية وهي لا تعنيه في موروثها القديم والحديث بشيء. ولك أن تفهم علاقته الإيهامية بكتب تراثه الثقافي العربي من خلال كلامه التالي عنها: "هناك مئات من الكتب لم أستطع قراءتها كاملةً، تـصفحت بعضها بيدين مرتعشتين من شدة الانفعال وبقلب خفاق، ومنها كتب المسعودي السحرية حول أسفاره في المعمورة لعل أحداً ما يزكي وقته الهلامي بقراءتها والكتابة لي عنها."(ص146). لا يحتاج إلى وسيط بينه وبين الكتب الفرنسية، لأنها تنتسب وإياه إلى ملاعب الصبا، ولكنه يحتاج الوسيط مع كتب موروثه العربي! يهاجم من "يتنصل من عروبته ولغته العظيمة ويعتقد بأن الغرب هو الأفضل." (ص206) وهو في كتابه كله لا شأن لا بعروبته ولغتها، وقد بترها من حياته مع ذاكرته، وينتسب روحاً وعقلا لحب الفرنسيين وكراهية الانكليز. يعيش في انكلترا، عماد إقامته ومعيشته، التي يحتقرها احتقاراً مبالغاً فيه 35 سنة، وفرنسا التي يعشق بصورة مبالغاً فيها على مبعدة ساعتين بالقطار (على هدى عمرو بن العاص الذي يُروى على لسانه قوله بأن "الصلاة خلف علي أقوم والجلوس على مائدة معاوية أدسم"). يعشق رامبو، ولكنه يحتقر أوسكار وايلد لأنه "مِثْلي". يحتقر بذاءة الانكليز، ولغته تتزاحم فيها البذاءة التي لا أجرؤ على إيراد شاهد منها. يحتقر الانكليزية، وعناوين الكتب التي يلاحقها انكليزية في الأغلب، أو فرنسية مترجمة إلى الانكليزية. وهو يحتقر طواعية الانكليزية على استيعاب مفردات اللغات الأخرى ويعتبرها "هجنة"..الخ. هذه ليست مفارقات سوريالي يحب أن يعبث، كما كان يعبث عبد القادر الجنابي. بل هي حالة انفصام وانعدام توازن.
هذه الطبيعة الثقافية الانفصامية نشأت مع عدد من الجيل الستيني، ثم انفردت بعينات منهم متطرفة، عاشت في فرنسا، أو ألهمتها الفرنسية على مبعدة عبر الترجمة. وتحول لديها "الهوى الفرنسي" إلى عقيدة، ذات لمسة قداسة. خاصة وأن الشاعر "مالارميه" ثبّت في أذهان عشاقه، ممن عززوا بعده ظاهرة "شعر اللغة"، "بأن الشعر حلّ محل الدين" ص233، والدين أو العقيدة تحتاج إلى تعصّب، والتعصب يحتاج بالضرورة إلى أعداء. ولقد وجد فاضل عباس هادي العدوَّ جاهزاً في الانكليزية والانكليز، فتفرّغ في ثلثي كتابه لمهاجمتهم، جنساً، لغة، أدباً، ثقافة، أرضاً، سماءً، تاريخاً بمفردات بالغة البذاءة في أحيان كثيرة. كما وجده في أصدقائه الذين قاطعهم لأنهم لم يتعلّقوا مثله بالفرنسية: "كونه الوحيد الذي تعلق بالثقافة الفرنسية بين المثقفين العراقيين في لندن، خلق ذلك بينه وبينهم فجوة مؤلمة لا سبيل إلى ردمها. وهو يسمي نفسه "وراق فرنسي الهوى" ويسميهم ذوي العين الواحدة.. أي أن ثقافتهم أحادية وثقافته ثنائية.. وكونهم لا يعرفون إلا الثقافة الأنغلو ـــ ساكسونية يجعل منهم كتاباً كئيبين.. وبوجيز العبارة: إن من لا يعرف "وردة الحياة" بالمعنى الفرنسي لا يعرف الحياة وفن الحياة." ص262. وهو في هذا الانتساب الفرنسي باقٍ داخل "البالون التهيامي الخيالي" ذاته الذي عادى فيه الانكليز. إنه، هو الذي قطع الوصل مع ذاكرته، يُقبل على ثقافة فرنسية تملك ذاكرة بالغة العمق في زمانها ومكانها. ولذلك سيبدو لهم، هذا اللائذ بهم بلا ذاكرة، كالهوام حول مصباح الليل.
إنه مشهد مُحزن للسوريالي العراقي الستيني الذي ألِف انفصامه. مُحزن لأنك تلمس تشبثه الدائب بأن يرى كلَّ ما يمتّ إلى"التوازن" بصلة مجردَ عورة يجب أن تُهتك: فهو يحتقر العقل والفلسفة العقلانية ص297. وينكر الدقة في الفكر وفي الكتابة، كما ينكر البحث العلمي ص246. ولا يجد ضرورة في مؤسسة الدولة ص202. أما الموضوعية "فالكاتب الحقيقي هو الذي يتجاوز المفاضلة الموضوعية.. الكاتب الحقيقي هو الذي ينشد المطلق البودليري ولا يقبل ما هو دونه."ص145. "أُفضّل الدوغما الألمانية على موضوعية توينبي.."ص100. وهو " غير معني بالواجب الأخلاقي مهما فلسفوه.."ص94.
حديثي هذا الذي ينصرف إلى فاضل وكتابه، إنما ينصرف في حقيقته إلى ظاهرة لا تمس شخصاً واحداً بعينه فقط. ظاهرة تهيامية وإيهامية، جعلت من ميلها الثقافي ذا لمسة عقائدية مقدسة، تتطلب أعداءً، لتشحن نفسها بالضغينة. لا ترى الظواهر، شأن العقيدة، إلا بالأسود والأبيض. ولا يعتمد وجودها إلا على "أنا" و"الآخر العدو".