عندما اقرأ وأترجم كتبا متخصصة بالثقافة وعلم المستقبليات والرواية العالمية تحديداً أنتبه إلى أن معظم اهتمامات كتابنا وساردينا وباحثينا تركزعلى استحضار خزين الذاكرة ومعطيات الماضي ويندر أن نجد لمحات عن رؤى تتعلق بمستقبلنا الانساني.
شغلني هذا الأمر طويلاً وأعادتني إليه قراءتي بداية عامنا الجديد ( 2018 ) لكتاب ممتع حرّره البروفسور الفيزيائي العراقي جيم الخليلي ، بعنوان ( ماذا بعدُ ؟ : ماذا يمكن للعلم أن يخبرنا بشأن مستقبلنا المدهش ) .صدر الكتاب في شهر تشرين أول ( أكتوبر ) 2016 وضمّ مساهمات لنخبة متميزة من العلماء والمهندسين والخبراء ذوي الرؤية العالمية في حقول معرفية محددة تخص عالمنا ، وتميز هؤلاء المساهمين خصيصة أصبحت علامة فارقة للمشتغلين في الحقول المعرفية العلمية والتقنية والانسانية - تلك هي ميزة شغف البحث في تخوم المعرفة ، ومحاولة التعشيق الحيوي بين تلك الحقول المعرفية بصيغة دراسات بينية متداخلة interdisciplinary ، إضافة لاهتمامهم الشامل بمستقبل النوع البشري والبيئة الحيوية التي تعيش فيها الكائنات الحية ضمن علم المستقبليات Futurology الذي شهد - ولايزال يشهد في يومنا هذا - قفزات كبيرة من التقدم الهائل .
وأذكر انني قرأت في التسعينيات كتاباً بعنوان ( صور المستقبل العربيّ ) أسهم في كتابته أربعةٌ من المتخصصين العرب في حقل الدراسات المستقبلية والتنمية التقنية والإقتصادية ، وترك الكتاب في نفسي أثراً عظيما لايمكن تجاوزه ؛ إذ كان العمل الأوّل الذي رأيت فيه توظيفاً دقيقاً لما يسمّى بأدوات التحليل الكمّي واستقصاء المتغيرات المتحكمة بالنشاطات البشرية في شتى حقول النشاط الإقتصاديّ ، ولأهمية الكتاب ظهرت نسخة منه باللغة الإنكليزية ؛ مما يشير بوضوح إلى أن المؤلفين سعوا لمخاطبة العقل الإنساني والعقل العربيّ سواء بسواء ، ومنذ قراءتي لذلك الكتاب بدأت أتابع حقل الدراسات المستقبلية بشغف القارئة وفضول الروائية وتنقيباتها .
هناك كما يعلم المتخصصون بعلم المستقبليات ، الكثير من الدراسات المستقبلية الحديثة ، وقد تُرجِم بعضها إلى العربية ، ولم أنس كتابا قرأته بعنوان ( العالم بعد مائتي عام ) من سلسلة كتاب عالم المعرفة في ثمانينيات القرن الماضي وهو من الكتب الاستثنائية التي قدمت رؤى إستشرافية مثيرة بشأن أحوال عالمنا المستقبلي ، ومثله أيضاً كتاب ( عالمنا المشترك ) الصادر عن السلسلة ذاتها وهو من منشورات منظمة الأمم المتحدة للبيئة ويركّز - كما يفصح عنوانه - على الجوانب البيئية المرتبطة بالنشاطات البشرية وتأثيرها المتوقّع على كوكب الأرض في العقود القادمة .
ثمة أمر تعنى به الدراسات المستقبلية يختصّ بإقتصاد المعرفة وضرورة تخصيص نسبة مالية محترمة من الإنفاق الحكوميّ العام للنهوض بهذا الجانب التعليمي الذي يعوّل عليه في تطوير كفاءات بشرية تجيد التعامل مع الفعاليات التقنية - الاقتصادية المستقبلية التي ستحمل لواء البشرية في الفتوحات المعرفية الخلاقة عندما لاتكون هناك حكومة تعتمد الفوائض الريعية في الإنفاق على مجالات توظيف غير منتجة.
لقد خسرنا الكثير من فرص الحاضر ولم يبقَ لنا الكثير لنخسره في سياق سباق عالميّ مستقبلي لامكان فيه للمتخاذلين أو المنكفئين أو المرتكنين على أنساق متهالكة عتيقة ثبت عجزها وبطلانها .
ولايبدو غريباً على واقعنا المنشغل بسياقات الماضي – حياة وثقافة وفعاليات - ندرة الكتب التي تتناول الدراسات المستقبلية في منطقتنا العربية ؛ وربّما يكون كتاب البروفسور الخليلي - وبضعة كتب أخرى معه – دفقة ضوء في ظلمة واقعنا الراكد تقودنا نحو آفاق مستقبلية لاأحد يمتلك القدرة على معرفة مآلاتها.
أيّ مستقبلٍ ينتظرنا؟
[post-views]
نشر في: 13 يناير, 2018: 06:01 م