اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أغنية وفاء للندن

أغنية وفاء للندن

نشر في: 7 يناير, 2018: 09:01 م

(2 - 2)
1.
أيتها المدينة المُثقلةُ بالحكمة. اقترحتِ على العين ألواناً لم تكن في حسابها. وفّرتِ لي الألوانَ والكانفس وقلتِ: استسلمْ لذاكرتك الآن، فرسمتُ استراحةَ الآلام في خمارة "كاردينيا". عرفتُ منكِ أن الموسيقى والرسم ملهمان في كتابة القصيدة، عميقان بفعل اللامباشرة، يليهما النصُّ والخبرة. لأن الزمانَ في الموسيقى، والفضاءَ في الرسم بعدان كونيان، يمنحان للقصيدة مدى ماورائياً، هو وحده الذي يميّزها عن النثر. حبّبتِ لي الباصَ والأندركراوند، لأن الأجناسَ البشريةَ تتزاحم فيه. أتأملُها جنساً جنساً، وكأني أتأمل الأجناسَ الخليط في داخلي. أتأملُها وجهاً وجهاً حين تغفو الوجوه قبل العمل وبعده، صوتاً صوتاً حين ترطُنُ الأصواتُ في الموبايل.
أنتِ تعتبرين الاصغاءَ لصوت وطنيتِكِ لغواً وعيباً. ولأن وطنيتي التي جئتُ بها داخلَ جواز السفر لا تمسّ إنسانيتي، هجرتُها مع جواز السفر، وتقبّلتُ هويةَ المواطن الذي لا وطن له. أودعتُ ألأوجهَ، والأمكنةَ، والأزمنةَ العزيزةَ عليّ في خزين ذاكرتي، ووضعتُ المفتاحَ في زجاجة، ألقيتُها في البحر. السنواتُ المتبقيةُ من العمر لم تعترضْ، ولم يعترضْ الأسى الذي لم يعدْ يعتصرُ القلب.
كمْ تستحقين أغنيةَ وفائي هذه وقد سمحتِ لأمواج "التَيْمس" تهدهد زورقي الخشبي القديم، ينطلقُ من شريعة "العباسية"، باتجاه "كاردينيا" في شارعِ أبي نؤاس. أراه يُحاذي الجرفَ الاسمنتي لشريعة "الساوث بنك"، وعلى أضلاعه الخشبية المطحلبة ينعكس ظلُّ الأسماك.
منحتِني حقَّ أن أَنعمَ بمسرّاتِ بلادٍ كانت لي ذات يوم، ثم أُحرقت على يد جُناةٍ من أبنائها دون رحمة. وما زالتْ تُحرق مع كل صلاة. كم تستحقين أغنيتي لأنكِ تُهوّنين عليَّ استعادةَ الذكرى، تُلقين عنانَ فرسها في راحة يدي، وتبعثين بي جرأةَ أن أقفزَ باتجاه السحب. حتى أنكِ سمحتِ لحمقى التطلعات الدموية إلى السلطة (الوطنية، القومية، الأممية والدينية..) باللجوء إليكِ؛ ينفّسون في أبهائكِ المضاءةِ عن احتقانهم.
2.
كنتُ في وطني أتقزّمُ بين تطاولِ القامات، وحين جئتُكِ استعدتُ قامتي.
لقد تعلمتُ أن أقولَ شكراً للقارئ المتفضّل، شكراً للطائر الضيف، شكراً لمدفأة البيت.
تعلمتُ الحوارَ لا الخطابة. تعلمتُ أن أقول "لم أفهمْ"، حين لا أفهم، ولمْ أشعرْ بحرجٍ من ذلك، ولا بعيب.
تعلمتُ حبَّ "أنا" النرجس لدى أبي نؤاس، والارتيابَ من "الأنا" المتورمة لدى أبي الطيب. تعلمتُ أن أتطلّعَ عالياً حين يتردد اسمُ "أبي العلاء". في "هجاء"المتنبي أرى الضغينة، وفي "سخرية" ابن الرومي وابن الحجاج أرى الرغبة في الدعابة والضحك.
أقول للقارئ الانكليزي تشمّمْ رائحةَ بغداد في عربيةِ قصيدتي وموسيقاها، لا في معناها فقط، ثم أقرؤها له فيطرب.
أقول للشاعر الانكليزي: إنني أتعلم منك، لا أُقلدك ولا أُحاكيك.
"حين رجعتُ زائراً لبغداد وجدتُ زمني فيها قد غادر إلى غير رجعةٍ. في ذاكرتي ترك بضعةَ مفاتيح تُعينني على الكتابة." قلتُ هذا للمدينةِ المُثقلة بالحكمة.
قالت: "انتسبْ لزمني إذن، فهو يليقُ بتطلعاتك."
قلت: "زمنُك متسارعٌ. كمْ حاولتُه، وأبى إلا أن يظلَّ عصياً."
قالتْ: "أفهم ذلك. لم يبقَ لكَ إلا زمنُك الداخليّ تنتسبُ إليه. ستكونَ حراً فيه، فهو شأنَ الزمن في قصيدتك، لا يُحسبُ حساب الدقائق والساعات والأيام." ثم أضافتْ: "إن دخلَكَ على قدرِ حاجتكَ، لا تغفل عن ذلك، وهذا عينُ الغِنى."
مطرُكِ أيتها المدينةُ لا ينقطع عبر الفصول. في الصيف أخرجُ إلى الحديقة عارياً، وأجلسُ تحت المطر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram