TOP

جريدة المدى > عام > زيارة

زيارة

نشر في: 3 يناير, 2018: 12:01 ص

إنني حبيس الدار هذه الايام، لا استطيع أن أبرحها منذ أن خذلتني ساقاي. يأتي ياسين العبيدي للتداول في شؤون الطباعة، طباعة ما أكتبه عن الموسيقى؛ ثم يرافقني في المشي الى المتنزه أو قبله إذا كانت ساقاي لا تقويان على المشي، واكتشفتُ أنه يمتّ اليّ بصلة قربى عن طريق جدتي من جهة أبي. كانت عبيدية وذات عينين زرقاوين.

 

وكانت ابنتي زينب ترافقني في المشي عندما تكون في زيارتي، لكنني أبقى حبيس الدارمعظم الأيام. ثم جاءني نداء تلفوني أمس (في واقع الحال اليوم، فأنا أكتب هذه الخاطرة مساء). إنه صوت أعرفه جيداً، أسمعه في المناسبات. صوت يأتيني في الآونة الأخيرة من بغداد أو أربيل. إنه صوت عزيز جداً على سمعي، ويقترن بأعمق مشاعر المحبة... صوت الصديق فخري كريم.
((إه، أنت هنا؟)) قلت له.
((نعم، جئت في مناسبة نعي الراحلة بشرى برتو.))
((هل فارقت الحياة بشرى؟ إنهم يتساقطون الواحد بعد الآخر. وأنا بقيت وحيداً أبكيهم كلما سقط واحد منهم.))
ويخبرني فخري بأنه سيقوم بزيارتي غداً أو بعد غد. وتأخر الى ما بعد غد. كنت في انتظاره في نهار يوم ((غد))، لكنه لم يوافني بحضوره الى أن حان ما بعد الغد. كنت جالساً على كرسي ((الانتظار)) الذي أطلّ فيه من غرفتي الى الدنيا من خلف زجاج نافذة عريضة جداً تشغل مساحة كل جدارغرفتي المطلة على العالم من حي ايلينغ في لندن الغربية.
(إنني أكتب هذه الخاطرة في الساعة الخامسة صباحاً. وشعرتُ ببرد في قدميّ، فتذكرتُ الجورب. وتحاملتُ على نفسي لألتقط الجورب من غرفة نومي. أنا لا أزال قادراً، أحياناً، على ارتداء الجورب، وهي مهمة المُعينة، تنهض بها كل يوم عندما توافيني بحضورها صباح كل يوم.)
أحسستُ بتعب بعد كتابة صفحة كاملة ، فتركتُ القلم ورأيت أن أنعم بساعة راحة في الفراش. إنني أتصارع مع الموت كل يوم، مع أنني صرتُ أريد أن يوافيني بحضوره في أية لحظة، لأضع حداً لعذاباتي. لكنني اليوم أريد أن يصدّ عني بأي ثمن، لأنني أكتب هذه الأوراق عن زيارة صديق عزيز جداً.
قال لي عندما جاءني تلفون منه: ((أنا سأطلب سيارة أجرة، وآتيك وحدي.))
((لماذا، أين هم الأصدقاء؟ أين هو محيي وسؤدد؟))
((مشغولان، ولا يستطيعان التفرغ لنا.))
((هذا غير ممكن، إنهما صديقان رائعان.))
((نعم، لكنّ شاغلاً مهماً أقعدهما عن التفرغ اليّ واليك في هذه الساعة من النهار.))
لا أريد أن أدخل في تفاصيل وصوله اليّ التي لم تتم إلا باستعمال التلفون عدة مرات، واضطراري أن أذكر اسم الشارع المجاور لشارعنا. ففخري ليس من لندن، وهذا اقتضاني أن أخرج متكئاً على عصاي لأقف على رصفة الباب عندما شاهدت من النافذة سيارة وصلت الى الشارع. كان النهار بارداً، وأنا تخلصتُ حديثاً من رشح ألمّ بي.
وأخيراً عناق، ودخلنا شقتي لأتهالك على كرسيي بعد أن التمست من فخري الجلوس.
إنه هو أيضاً دبّت اليه الشيخوخة (بعد حين أكد لي أنه بلغ الخامسة والسبعين.)
((هل تشرب شيئاً؟))
((أترك الشرب الآن. حدثني كيف أنت؟))
كنت دائماً أكرر مع نفسي كلمات بالانكليزية مفادها ((Time irreversible)) لكنني لم أقلها له. لا أدري ماذا قلت له، سوى أنني تذكرت في شريط دار في رأسي كل تلك المناسبات التي كنت التقي فيها معه، وينهض من بينها لقاء لنا في براغ تمّ في العام 1981. كنتُ لاجئاً الى براغ بفضل عناية أصدقائي الشيوعيين العراقيين، والشيوعيين التشيك. وكان ما لدي من مال في طريقه الى النضوب، وأنا يومئذ كنتُ خارج التنظيم ((الشيوعي)). فكنتُ أعامل كصديق وليس كرفيق، وهذا يعني أنني كنت أتحمل وحدي مهمة تدبير معاشي.
في ذلك اللقاء في براغ سألني الصديق فخري كريم:
((كيف تدبر حالك؟))
((أنا خارج التنظيم، كما ترى، وأوشك أن أنضب مالياً.))
((إسمع، اترك المسألة لي. سأجد لك حلاً خارج التنظيم، لأنك خارج التنظيم...)) ولم يُفصح أكثر من ذلك.بعد أيام، ولعلها أسابيع، لا أذكر، جاءني نداء منه لا أدري من أين، أكد لي فيه أنه اتصل شخصياً بياسر عرفات، لعل ذلك كان في بيروت، وطرح موضوعي عليه، فأخبره السيد ياسر عرفات بأنني سأكون تحت رعاية منظمة التحرير الفلسطينية أينما كنت، ولأذهب الآن الى بودابست لأن فرع منظمة التحرير الفلسطينية في هذه الأيام تسلم إيعازاً من السيد ياسر عرفات بأن أحسب على ملاكهم.
آه، ياإلهي، ما أروع هذه العلاقات الكفاحية. وبعد يومين تسلمتُ نداء من بودابست بأن مسؤول منظمة التحرير في هذه المدينة سيكون في انتظاري في المطار في موعد معين.
هورا.
مضى على هذا التأريخ سبعة وثلاثون عاماً. ومضت أحداث جمة وبعضها خطير. وأنا كنت ألتقي بالصديق فخري كريم بين حين وآخر. ونشأت لي علاقة حميمة مع الأخوان الفلسطينيين، تعرفت في غضون ذلك بأشخاص من بينهم فيصل دراج ومريد البرغوثي وزوجته الراحلة رضوى عاشور الكاتبة.
لكن لقاءاتي بالصديق فخري كريم ظلت لها نكهتها الخاصة، فقد تم التعارف بيننا ربما منذ الستينيات من القرن الماضي، عندما كنت ألتقي بالرفيق الراحل عدنان البراك، وأذكر أن الرفيق عدنان أخبرنا ذات يوم عن لقائه بشاب واعد اسمه فخري كريم. ولابدّ انني التقيت بفخري منذ تلك السنوات الستينية. فأنا أذكر أنه أودع عندي مجموعة من الاسطوانات الكلاسيكية عندما غادر العراق. لا أدري إن كان ذلك حدث بالفعل، لكنه ماثل في ذاكرتي.
تلفن الصديق محيي لفخري يسأله عنا وكيف ندبر أمرنا، فهو يعلم أنني متعب وقد لا استطيع أن أتحرك لأقوم بواجب الضيافة (ففخري ضيفنا after all). ويبدو أن فخري طمأنه بأن لا يقلق من هذه الناحية، لكن محي عاد فتلفن مرة أخرى بعد نصف ساعة. لعله يشعر بتأنيب ضمير لأنه تركنا دون أن يكون في مقدوره الالتحاق بنا. لكنه أرسل الينا شقيقته لتحمل الينا غداءنا، وكان وقت الغداء قد حان قبل ذلك بساعة أو ساعتين.
كان الغداء يشتمل على عكوس، ومرقة باميا، ومرقة فاصوليا يابسة، ورز. وزّع فخري الطعام في صحنينا. وعلى مائدة الغداء دار الحديث عن كتابي عن المسيح الذي أرسلته الى فخري ليبدي رأيه فيه، ويقوم بطبعه في مطابع دار المدى إذا لم تكن لديه ملاحظات عليه.
الكتاب مدهش، على حد قوله، أو لعله قال إنني أنا المدهش. وأعرب عن إعجابه به، واستعداده لنشره. لكنه استدرك قائلاً إن الكتاب يمكن أن يثير حفيظة أعداد كبيرة من القراء المسيحيين. لأنني ذكرتُ آراءً يمكن أن تجرح المشاعر المسيحية، بما في ذلك أن هناك زعماً يذهب الى أن المسيح ربما كان ((أبوه)) عسكرياً رومانياً. لذلك يرى الصديق فخري أن يطبع من الكتاب عدد محدود من النسخ. لتقليل ردود الأفعال المتحفّظة على الكتاب. ولم يكن لدي مانع.
وسأضيف الآتي الى هذه الكلمة: تكلمتُ مع ابنتي زينب هاتفياً، وهي تقيم في كندا. ثم رأيتُ أن تحيي الصديق فخري. فأتحتُ له أن يكلمها، وسمعتُ نتفاً من كلامه معها. إقترح في سياق كلامه معها أن تسعى الى استقدامي الى كندا لأقضي بقية أيامي في صحبتها، فرحبتْ بالفكرة، ووعدت أن تتصل باتحاد الكتّاب الكنديين، حسب نصيحة الصديق فخري، بأمل تيسير مهمة انتقالي الى كندا... آه، لا أدري، إن هذا المشروع يأتي في صالحي، لكنني اعتقد أن الآوان قد فات.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram