قال إنّ والدته كانت واثقة من أنّ مولودها الثاني سيكون ذكراً، بعد أن جاءت أُخته قبله بسنتين، وتوقعات هذه المرأة البغدادية لم تاتِ من مزاج بل إيمان، فهي قد استجارت بالعذراء مريمانة، كما كانت تسمّيها لتمنحها ولداً : " كنتُ منذوراً، طلبتني من السيدة مريم في كنيسة قريبة من بيتنا.ثم جئتُ مصحوباً بأدعية إسلاميّة ومسيحيّة ويهوديّة ". فالقابلة التي ساعدت في خروجه إلى الدنيا كانت سليمة اليهوديّة، و" سويدة " التي ستعتني به جاءت من جنوب العراق لتعيش وسط عائلة بغداديّة كواحدة من أفرادها، وسوف تشعر هذه الفتاة الجنوبية بأنّ هذا المولود الذي ليس من لحمها ودمها، هو الأقرب إليها في هذا العالم.
بهذه الصفحات التي تقطر إنسانيّة ومحبّة يفتتح المعماري الكبير معاذ الآلوسي كتابه " توبوس " الذي يروي حكاية المكان – بغداد - وذكريات الزمان، وكان قد وضع قبل سنوات كتابه الممتع " نوستوس " عن الحنين إلى شارع في بغداد.
وفي الصفحات التي اقتربت من الثلاث مئة نعرف أيضاً، أو بالأحرى نستخلص، ظاهرة في غاية الأهميّة، وهي أنّ هذه المدينة بغداد، كانت في زمن مضى تنافس العالم على إقامة الجامعات وإعمام التعليم. فيما المعمّمون والرهبان واليهود والأفنديّة، تنافسوا على إشاعة روح الجمال والخير ولم يتنافسوا على القتل، والطائفية والعودة بالحياة الى القرون الوسطى.
يبدأ معاذ الآلوسي في توبوس ليروي حكايته التي بدأت في إحدى محلات بغداد الشعبية قبل ثمانين عاماً، لتتوقف في لحظة من لحظات الحنين في مدينة ميرسال القبرصية،إذ نراه يضع كرسيّاً على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، يستعيد مثل كاتب سيناريو شريط حياته، ليعيد تركيبه لقطةً لقطة، وفي كلّ لقطة نشاهد لحظات الحنين والشغف ببيت مكعب على شاطئ دجلة، يكتب في الصفحة الأخيرة من توبوس : " عيني وقلبي على بغداد.هناك لي دار مكعب يطوف على شاطئ دجلة، وضعت فيه كلّ ما نهلت من قيم جمالية ومقومات حياة جميلة. الآن هو مقفل، وربما يقفل ويصبح أطلالاً، ربما يكتب لي العودة إليه، ومنه إلى السبات الأبدي في إحدى زوايا الشيخ جنيد.
كان بول فاليري يوصي الشعراء الشباب بأن يضعوا قمراً صغيراً في قصائدهم. وضع لنا معاذ الآلوسي أقماراً تتوزّع في شارع حيفا وفي العديد من البنايات التي زيّنها بالأقواس التي يعشقها، حيث أراد لبغداد أن تكون أكثر تألّقاً وصفاءً وأن تفترش دروبها بالضوء، ولهذا ظلّ وهو البعيد عنها يُوسّع دائرة الحنان وزوايا الحنين،في الوقت الذي يوسّع فيه القابضون على مصيرها دائرة الخراب والموت والمجهول.
حنين معاذ الآلوسي
[post-views]
نشر في: 29 ديسمبر, 2017: 06:45 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
معرض العراق الدولي للكتاب: بوابة نحو التميز الثقافي والتضامن الإنساني
النفط يتصدر المشهد وتبدلات مفاجئة في ترتيب دوري نجوم العراق بعد الجولة الثامنة
العراق يُطلق منصة لتنظيم العمالة الأجنبية وتعزيز الرقابة الإلكترونية
العراق تحت قبضة الكتلة الباردة: أجواء جافة حتى الاثنين المقبل
ضبط طن مخدرات في الرصافة خلال 10 أشهر
الأكثر قراءة
الرأي
الخزاعي والشَّاهروديَّ.. رئاسة العِراق تأتمر بحكم قاضي قضاة إيران!
رشيد الخيون وقعت واقعةٌ، تهز الضَّمائر وتثير السّرائر، غير مسبوقةٍ في السّياسة، قديمها وحديثها، مهما كانت القرابة والمواءمة بين الأنظمة، يتجنب ممارستها أوالفخر بها الرَّاهنون بلدانها لأنظمة أجنبية علانية، لكنَّ أغرب الغرائب ما يحدث...
جميع التعليقات 1
ali
الاخ علي انا اعيش في لندن وهذه المدينه كمثال تعلم انها تضم اعداد هائله من اللذين وفدواعليها من اهل البلاد والمهاجرين خلال العقود السابقه وهم بمستويات حضاريه وثقافيه متباينه بشكل كبير واستطاعت المدينه بقوانينها ان تطوعهم لمدنيتهاعن اقتناع او بسلطة القانون