هل الرواية الحديثة، منذ نشأتها وحتى الآن، هي بيت العالم؟ أهي المكان المثالي لسكنى كل الحَيَوات والموجودات والتفاصيل البشرية؟ هل الرواية الحداثية وما بعد الحداثية والرواية ما بعد الكولونيالية، بكل أساليبها وأنماطها وأشكالها ونماذجها المقدمة عبر تحولاتها العديدة في الأطوار والأدوار والمهام التي أنيطت بها هي بئر كبيرة اختزنت كل هذه الكائنات والهيئات والأشكال، وجعلتها تنصهر في بوتقة من الكلمات لتُمسي هذا العالم الحديث والسردي الذي نسميه الرواية؟ هل هي كذلك حقاً مخزن عالمي هائل وجبار لاحتواء كل ما مرّ في الكون من مخاليق وتكوينات وترسيمات وسمات لمخلوقات.
وكل ما مرّ من تواريخ وأزمان وأمكنة، شاءت الرواية أن تصطفيه وتؤكده وتحفظه، كونها أرشيف البشرية؟ هل هي حقاً أرَّختْ كلّ شيء عَبَر الدنيا لتحفظه في عمقها اللامحدود؟ هذا ما أجاب عنه كتاب «تطور الرواية الحديثة» للأميركي البروفسور جيسي ماتز المتخصِّص بالنظرية السردية .
يعالج هذا الكتاب الضخم وعلى نحو أدبي وجمالي، علمي ومنهجي، وتاريخي وكرونولوجي، ووفق طريقة سلسة وواضحة وأنيقة، تعبيرياً ولغوياً وإسلوبياً، تطور الرواية الحديثة، منذ بزوغها على يد هنري جيمس، أول روائي بريطاني ينعت الفعل الروائي بالفن، مُنظِّراً له في مقالة شهيرة، عرَّفتْ وشرحتْ وتوغلتْ عُمقيَّاً في نسيج وأشكال وتشابكات هذا الفن، ووضَّحتْ نوعية هذه الكتابة، كونها فناً، يرقى إلى مصاف الأعمال الإبداعية مثل الشعر والموسيقى والرسم والفنون الشهيرة والمعروفة والسائدة في العالم .
من هنا يرسم المؤلف عمارة مدهشة في نسقها وطرازها وتصميمها لتطور هذا المساق الجمالي للرواية الحديثة، باعتبارها الفن الأكثر تساوقاً وانسجاماً وتناغماً في السموّ بفنها إلى مصاف الرُّقي الحضاري، حيث التخليق الرؤيوي والخيالي وشبه الأسطوري، بغية الارتقاء بهذا الفن نحو الكمال والتسامي والتفوق التعبيري، الذي باستطاعته أن يحتوي ويضم ويستوعب جلّ الأنسقة الحياتية والكونية والإنسانية، ووفق كل تجليات معارفها الانثروبولوجية والسوسيولوجية والعلمية، والمثيولوجية، لتنصبَّ بالتالي، في نسق سردي وحكائي ومروي في صفحات خليقة، تفي بالنهوض بما رأتْ، وجَمَعتْ، وشَهدَتْ، وخَبرتْ من تجارب، ولامستْ بقوة المُتخيَّل والواقعي والاسطوري من استبطان واستلهام وعيش، كلَّ هذه الأشياء التي تكرَّست في الحياة على نحو عام ؛ لذا يرى المؤلف البروفسور ماتز، أن هناك مبرراتٍ عدّة، ومسوِّغات كثيرة، ودافعاً قوياً دفع بالرواية «إلى الارتقاء المستديم على كامل رقعة عالمنا وبين كل الجغرافيات البشرية، حتى بات الأمر يشكل علامة مميزة لها».
تعزو الروائية والكاتبة لطفية الدليمي تطور ونموّ الفن الروائي على نحو مطرد إلى ثمانية أسباب غير تقليدية جعلت منها هدفاً فنياً سائغاً ومرتضى، من بينها :
ــ تمثل الذاكرة الجمعية لكل جغرافية بشرية.
ــ الرواية في عالم اليوم تؤدي وظيفة الأسطورة .
ــ الرواية عمل تخييلي يعتمد على المخيلة ويعمل داخل فضائها .
ــ الرواية معلم حضاري وثقافي تنهض به العقول الراقية .
ــ الرواية جهد خلاق يرمي إلى فتح آفاق جديدة .
تستطرد المترجمة وبطريقة معرفية مسهبة، وتفصيلية، في بيان المكونات الحداثية وثوراتها العلمية، في مجالات الفيزياء، كالنظرية الكميّة والنسبيّة في عهد نيوتن، والثورة السايكولوجية في عهد سيغموند فرويد، وكذلك الثورة الصناعية الكبرى بعد اكتشاف الضوء والمحركات العاملة بالبخار، ثم التدرج في الاختراع بعد القطار والسيارة والطائرة وغيرها من الوسائل الصناعية الكبرى التي ظهرت بوادرها في الحرب العالمية الأولى كدلائل على تطور الثورة التقنية، وتقدُّمها في الاكتشافات المتوالية، وطريقة عملها في فعل الخير والشر، كالأسلحة العسكرية وغيرها من وسائل الإبادة والإنقاذ معاً. ويرى المؤلف إلى قصيدة الشاعر الأنكلوسكسوني إليوت «الأرض الخراب» على أنها تشكل الدليل الأوضح لتطور وخراب هذا العالم، بعد ما تركته الحرب العالمية الأولى من جروح على النفس البشرية .
وعلى جري المبادأة في كل شيء، تذكر المترجمة أن بدايات التشكل البنائي الصحيح للرواية هي «دون كيخوته» للإسباني سرفانتس، وكذلك البريطاني ريتشاردسون صاحب رواية «باميلا» المكتوبة في القرن السابع عشر .
إن هاتين الروايتين تشكلان الأرضية التمهيدية لبناء عمل روائي شبه متكامل، من نواحي الزمان والمكان، والأبطال والشخوص البارزين والمهمشين الذين يعبرون عن أفق الرواية، بشكل عام .
وفي ضوء هذا المسار، لا تنسى المترجمة الثورة الفلسفية وانعكاسها الجلي على الرواية الحديثة، كون الأخيرة قد خلَّصت الرواية من أزمتها، وباروكيتها، وشكلها الفيكتوري الذي اتسم بالرطانة اللغوية المُفخَّمة، ذات البعد الاستعاري المحتشد بالزخرفة، والتوشيات، لينهض البديل «لغة مقتصدة تحتكم إلى معايير الانضباط ومقاربة الأهداف بلا وسائل التفافية على صعيد اللغة».
من جهة أخرى يرى المؤلف ماتز أن الروائيين الحداثيين الذين أثَّروا في المشهد العالمي، ويمكن عزو الحداثة الروائية وتطور أساليبها إليهم، هم فرجينيا وولف وجيمس جويس وتروومر ود ـ هـ ـ لورنس، حيث ترى فرجينيا وولف أن عام 1910 هو تاريخ بدء انطلاق الشكل الحديث للرواية، بينما رأت الكاتبة ويلا كاثر الأمر يبدأ مع عام 1922 وهو العام الذي تزامن مع نشر رواية «يوليسيس» لجيمس جويس، تلك الرواية التي أثارت جدلاً حداثياً واسعاً، وأثَّرت على نحو لافت وملموس، في شكل الكتابة الروائية العالمية، وعدَّها المؤلف ماتز، الرواية التحفة، والعمل الأفخم لجويس، وأضاف أنها: «موسوعة للأشكال الروائية الحديثة» .بالطبع المواقف والآراء والأفكار لم تتوقف عند هذين الزمنين لنشأة الرواية الحديثة، فهناك من يرى أنها بدأت منذ عام 1857 يوم نشر الفرنسيان شارل بودلير ديوانه المثير «أزهار الشر» وغوستاف فلوبير يوم نشره في الوقت عينه روايته الشهيرة «مدام بوفاري»، بينما صِنْف آخر من الكتاب والنقاد والباحثين يرى أن عام 1901 وهو يوم غياب الملكة فيكتوريا، هو يوم دفْن أيضاً للتقاليد الصارمة والتقليدية للزمن الفيكتوري العتيد .
بيد أن الأمر سوف لن يستمر طويلاً، إذ سرعان ما واجه تيار الحداثة سداً منيعاً، ابَّان حدوث الحرب العالمية الثانية التي استمرت لست سنوات، كانت كافية لإحداث الخلخلة في المسار الروائي الجديد والحديث، لتجد الرواية الحديثة نفسها أمام نوع من الكوارث الجديدة التي أنتجتها الحرب، مثل التهديدات بالحرب النووية، وشيوع النزعة التجارية، إضافة الى الانقسامات العولمية .
لعل هذه المواضعات والمشكلات والتباينات الجديدة، قد جعلتْ الرواية الحديثة تقف عاجزة أمام مدِّها المتعاظم والزاخر بالمواقف الراديكالية، مما أدى إلى انحسارها وخبوّ وهجها، لتنتهي في عام 1965 إبَّان الثورات الجنسية والموسيقية والسريالية، متخذة توصيفات أخرى .
ومثلما قسَّمت الحرب العالمية الثانية العالم إلى قطبين متصارعين ومتنازعين، حصلت أيضاً في الفنون والآداب عامة تغيرات كثيرة، فظهرت بعد فترة الستينيات اتجاهات مختلفة وأنسقة جديدة للرواية العالمية، في كل من أميركا الجنوبية وأفريقيا، وكذلك في بلدان العالم الشيوعي السابق وبلدانه الاشتراكية، كما كان سائداً في تلك الأوقات .
في الوقت عينه ظهرت رواية ما بعد الحداثة، ورواية ما بعد الكولونيالية، ولكل منهما الأسلوب الخاص والمكانة الواضحة في حقل التجريب الروائي الذي بدأ مع فرجينيا وولف في «السيدة دالوي»، وجيمس جويس في «صورة الفنان في شبابه» و"يوليسيس"، وكذلك مع وليم فوكنر الذي جسد في روايته الشهيرة «الصخب والعنف» كسر الزمن التقليدي والتتابعي، وفورد مادوكس صاحب «الجندي الطيب»، تلك الرواية التي خلخلت البناء النمطي للرواية المتعارف عليه، في نسج التفاصيل البليدة، وفي بعدها عن الواقع والثيمات الحياتية، وأرنست همنغواي في الكتابة الفنية المتسمة بالوضوح والبساطة، كما تبيَّن ذلك في روايتي «أعالي ميشغان» و"الشيخ والبحر" وتروومر في رواية «القصب» التي ضمَّت أشكالا كتابية مختلفة، وصوراً وأمزجة وحكايات متنوعة، وهي تسرد مفاهيم الهجرة، داخل أفق جغرافي خاص للأفارقة. وقد دشن فعل الرواية ما بعد الكولونيالية كل من نايبول ودوريس لسينغ وتوني موريسون واتشيبي ونغوغي وبن اوكري وكويتزي وغيرهم الكثير، لتنشأ وتتنامى بشكل ملحوظ وبارز وباعث على الدهشة رواية أمريكا اللاتينية، والتي وسِمَتْ حين بزغتْ بـ «الواقعية السحرية» وقد دُشنت على يد حفنة من المبدعين الكبار، مثل ماركيز وكاربنتييه وكورتزار وكارلوس فوينتس وآخرين لا يحصون.
إن كتاب جيسي ماتز « تطور الرواية الحديثة » بوفرة معلوماته ودقته، وبحثه العميق والمستطلع لكل ما مرت به الرواية الحديثة في العالم من تحولات جمالية وفنية وتعبيرية، يعتبر في نظرنا وثيقة نقدية هامة، إستقرأت بعقل نقدي، تحليلي ملموس، أهم المحطات في تاريخ الرواية العالمية الحديثة، وعبر أبرز الأعمال الروائية، وكل ذلك أضيئ من خلال ترجمة دقيقة، منيرة وسلسة وواضحة، من قبل المترجمة والروائية العراقية لطفيّة الدليمي .
جيسي ماتز: «تطور الرواية الحديثة»
ترجمة لطفيّة الدليمي
دار المدى، بغداد 2016
413 صفحة .