TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > "من يمدح العروس إلا أهلها": في مديح الساسة والمثقفين لبعضهم

"من يمدح العروس إلا أهلها": في مديح الساسة والمثقفين لبعضهم

نشر في: 25 ديسمبر, 2017: 09:01 م

يتوجب خلع بعض أمثال العرب من سياقها وسردياتها التأريخية، وفهمها في سياق رمزيّ، وأحياناً سياسيّ محايث. وقد اسْتُخدمت دائماً تقريباً وفق ذلك. وحتى اليوم، كلما حضرت مناسبة سياسية يُدْرِج الكتّاب والصحفيون أمثال العرب في كتاباتهم، دون تردد، طبقاً للسياق المُستخدَم.
بالأمس مثلاً قرأتُ السيرة الذاتية للرئيس الجديد لشبكة الاعلام العراقية (لا أتكلم عن أخلاق الرجل ودماثته وحياته الاجتماعية)، ثم قرأت في الصحافة المقرّبة منه وفي وسائط التواصُل مديحاً كبيراً لخلفيته الثقافية والمهنية من طرف المحتفلين به (والعكس صحيح أيضاً)، قبل ذلك وطيلة سنوات طوال قرأنا مدائح متبادَلة كالها ساسة العراق لأعضاء أحزابهم و(جماعتهم) وبعضهم البعض، ومنهم بعض الفاشلين تماماً من كلّ حدب وصوب مثل وزير التعليم العالي السابق. بل هناك من حرّق البخور لمرتشين وفاسدين وسّراق للمال العام ومزوّري شهادات عليا. وها هنا بالضبط يصير الاستشهاد بالمثل العربي الذي يورده الميدانيّ (من يمدح العروس إلا أهلها) في مقام مقبول. يذكر المؤلف "أنه يُضرب في اعتقاد الأقارب بعضهم ببعض وعجبهم بأنفسهم. قيل لأعرابي: ما أكثر ما تمدح نفسك! قال: فإلى من أَكِلُ مدحها؟ وهل يمدح العروس إلا أهلها؟". انتهى. هذا المثل لا يمكن البقاء عند سطحه. لا يمكن إلا تلمّس المعنى السياسيّ والثقافيّ فيه، خاصة وأن فكرة (المديح) مدفوع الثمن بل (المدح المجانيّ) المتملّق يمكن وصلها بالسياسة في كل عصر. فما المقصود بالمديح لُغةً، على وجه الدقة؟ المَدْح نقيض الهجاءِ (والهجاء هو فعل سياسيّ أيضاً وبالأحرى) وهو حُسْنُ الثناءِ، وهو المَدِيحُ والجمع المَدائحُ والأَماديح (ويا لجمال هذا الجمع)، والمَدائِح جمع المديح من الشعر الذي مُدِحَ به كالمِدْحة والأُمْدُوحةِ؛ ورجل مادِحٌ من قوم مُدَّح ومَديحٌ مَمْدوح. وتَمَدَّحَ الرجلُ تكلَّف أَن يُمْدَحَ. ورجل مُمَدَّح أَي مَمْدوحٌ جدّاً، ومَدَح الشاعرُ وامْتَدَح. وتَمَدَّح الرجل بما ليس عنده تَشَبَّع وافتخر. ويقال فلان يَتَمَدَّحُ إِذا كان يُقَرِّظُ نفسه ويثني عليها (وهذا فعل يتوجب استثماره نقدياً). والمَمادِحُ ضدّ المَقابح.
ونحسب أن مثل الميداني يُقرأ بالأحرى (من يَتَمَدَّحُ العروس إلا أهلها) أي يتكلّف الفعل. بصيغة (تفعَّل) نزيل الصبغة الأيروتيكية المُضْمرة المعطاة للعروس، ونرى فيه ما نودّ نحن رؤيته، رغم أن بعضهم يتشبث عامداً بهذا المعنى الأيروتيكي، بل الجنساني، وهو يخلط أيّما خلط بين السياسيّ والأيروتيكيّ لغرض في نفس يعقوب. السياسيون يَتَمَدَّحُون.بقناع أيروتيكيّ، بـ "مكياج" العروس القبيحة التي تزيد وجهها سوءاً على سوءٍ.
الظاهرة، في الحياة الاجتماعية والسياسية العراقية والعربية، كما يبدو لاجتهادنا، أعمق وأعقد من هذا النمط من المديح، وقبل ذلك تعلن التناقض التالي: إن الإفراط في (المجاملة) و(التأدُّب) الفائض عن حدّه و(الكياسة) التي تخرج عن الكياسة، يقود إلى معايير، اجتماعية وسياسية وثقافية، محكومة بميوعة المزاج النقديّ، والانزعاج من توجيه (النقد للأحبّة) المقربين، وثم سهولة الحكم على النقد الاجتماعيّ والسياسيّ بالعدائية والقسوة والظلم. الأمر ملحوظ في الوسط الثقافيّ بشكل لا مزيد من البراهين على براهينه.
لكن المثل "من يمدح العروس إلا أهلها" يُضمر أيضاً تجاهل (نوعية) العروس، ومقدار فتنتها الحقيقية، وجمالها الفعليّ والمجازيّ. وهنا الإشكالية. وكأنَّ المثل يُطالِب بأن تُمْدَح العروس من غير أهلها، فيكون الأمر أكثر موضوعية ويصير مقبولاً وفق المنطق والعقل والشرعة الإنسانية. وهذا ما يتوجب أن يتوقف أمامه الساسة والمثقفون.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram