وأنا أضعُ اللمسات الأخيرة على ترجمتي لكتاب ( الثقافة ) لمؤّلفه الأشهر ( تيري إيغلتون ) تملّكتني الدهشة في الفصل الأخير من الكتاب ؛ إذ يورد إيغلتون وصفاً دراماتيكياً لمشاهد سائدة في إحدى الجامعات البريطانية ( وهو نفسه أستاذ جامعي كما نعلم ) ، ولا أحسب كلام إيغلتون إلا صادماً لكلّ من تُتاحُ له قراءته .
يرى إيغلتون أن ليس ثمة مثالٌ أكثر وضوحاً من مثال الإنحدار العالميّ في وضع الجامعات يكشفُ عن الكيفيّة التي تمثّلت بها الرأسمالية ماكان يُعدّ يوماً ما " ثقافة مضادة " ، وصار التقليد الجامعيّ الممتدّ لقرون بشأن كون الجامعات مراكز للنقد الفكري وصناعة المعرفة عرضةً للتدمير الحاليّ الممنهج من خلال تحويلها إلى شركات شبه رأسماليّة مزيّفة تحت سطوة الآيديولوجيا الإدارية الجاهلة شديدة التغوّل والقسوة ، وراحت ميادين التأمّل النقديّ والمؤسسات الأكاديميّة تُختَزَلُ على نحوٍ مضطرد إلى عناصر في السوق الرأسمالية تُضافُ إلى المحلّات التجارية ومراكز بيع الأطعمة السريعة ، ووُضِعت تلك الميادين والمؤسسات - في معظمها - بأيدي نخبة تكنوقراطية لاتعني القيم بالنسبة لها سوى موضوعة مماثلة للتعامل مع سوق العقارات ، وصار الشغيل ( البروليتاريّ ) الجديد من الأكاديميين المنتمين لعالم الفكر يتمّ تقييمه من خلال الكيفيّة التي يمكن لمحاضراته حول أفلاطون أو كوبرنيكوس - مثلاً - أن تساهم في دعم الإقتصاد وتعزيز جني المال ؛ أما الخريجون الجامعيون الجدد غير الحاصلين على فرصة عمل في الحقول الفكرية فيشكّلون بنظر التكنوقراط الرأسماليين شكلاً من أشكال الإنتلجنسيا الرثّة .
يواصل إيغلتون مداخلته المهمّة فيؤكّد أنّ الطلبة الّذين يدفعون في وقتنا الحاضر رسوماً دراسية سنويّة باهظة سيجدون مدرّسيهم الجامعيين عمّا قريبٍ وهم يتآكلون في قدراتهم الفكرية سنة بعد أخرى ، ويورد إيغلتون المثال الصارخ التالي ( تأمّل مثلاً أنّ جامعة بريطانيّة ، وفي سياق التمهيد لجعل بعض أعضائها الأكاديميين مدركين لطبيعة التغيّرات الهيكليّة الراديكالية القادمة ، أصدرت أمراً جامعياً حديثاً يفرضُ تحديداتٍ صارمة على قدرة الأستاذ الجامعيّ في الإحتفاظ بكتبه الشخصيّة في مكتبه - الذي بات يصغر يوماً بعد آخر - لأنّ فكرة الإحتفاظ بمجموعة شخصية من الكتب صارت فكرة عتيقة متقادمة ومهجورة . إنّ حلم الإداريين صلدي الرؤوس والقيّمين على إدارة جامعاتنا هو بيئة تنعدم فيها الكتب والأفكار المكتوبة ، وتعدُّ فيها الكتب مصدراً باعثاً على الفوضى ومادة ذات صوتٍ مدوٍّ لاتتناغم مع الأرض اليباب الحديثة - ذلك الفضاء الرأسماليّ الأنيق الذي لاترى فيه سوى الآلات والبيروقراطيين ورجال الحماية ! ، وطالما أنّ الطلبة باتوا يُعدّون مصدر فوضى وتشويش طنّان فإنّ المثال الجامعيّ المطلوب هو بيئة جامعية لاترى فيها مخلوقاتٍ آدميّة أمام أبصارك . إنّ موت الإنسانيّات في جامعات اليوم ليس سوى حادثة تنتظر التحقّق في الأفق المنظور ) .
إنّ مايحكي عنه إيغلتون قد يبدو للبعض مبالغة غير قابلة للتصديق ، وربما ماكانوا سيصدقونها لو صدرت من شخصٍ ليس بمقام إيغلتون مكانة ثقافية وأكاديمية ؛ لكنها الحقيقة الصارخة والعارية ، وهي جزء من صورة أعمّ في ( عالم باتت فيه الدولة عبداً مطيعاً في كلّ لحظة للطبقة الحاكمة وتخدم كآلة لتعزيز مصالح تلك الطبقة وبكيفية لم يحلم بها أكثر الماركسيين الأصلاء تطرّفاً ! ؛ إذ حصل في نهاية الأمر أن إرتدى رجال العصابات والفوضويون الشقاة الحقيقيون بدلات فاخرة الطراز وتركوا السرّاق النهّابين يديرون البنوك بطريقتهم الناعمة بدلاً من الإغارة عليها في وضح النهار!!).
جامعات القرن الحادي والعشرين
[post-views]
نشر في: 23 ديسمبر, 2017: 09:01 م