عاودت طرق التخريب والتدمير تطول البيوت التراثية في بغداد ، وهذه المرة عن طريق الحرائق بسبب سوء استخدام تلك البيوت وتأجيرها لممارسة أعمال تشكل خطورة على أسس تلك البيوت وتكويناتها الجمالية والبنائية التي صممت لأجل السكن المريح ، إلّا أنّ الإهمال وعدم متابعة الجهات المسؤولة عن تلك البيوت تسبب بفقدان العشرات منها في السنين القربية الماضية وبشتى الطرق. وبالطبع الأمر لايخلو من تواطؤ بعض أفراد تلك الجهات مع الملاكين لتك البيوت الذين يرومون الاستفادة منها بشكل تجاري ،غير مبالين لإرثها العمراني..
معمل نجارة في بيت تراثي
في منطقة باب المعظم وأمام الإعدادية المركزية ثمة دار بنيت في الثلاثينيات من القرن الماضي بطراز معماري راقٍ ملكها وزير المعارف يوسف عز الدين في حكومة بكر صدقي عام 1936 الذي قاد انقلاباً ضد ياسين الهاشمي، ظل المكان في منأىً عن الاستخدام حتى مرحلة السبعينيات من القرن الماضي ،إذ تحول إلى مخزن لحفظ المطبوعات. وأهمل فيما تحول مؤخراً الى معمل نجاره وتصنيع الموبايلات وجزء منه تحول إلى مخزن للأقمشة والإسفنج الذي تحول قبل أيام الى وقود أجهز على كل ما في البيت من مواد تستخدم في النجارة مع تضرر أجزاء كبيرة من البيت التراثي وتحول واجهتها الملونة الجميلة الى قطعة سوداء. أمانة بغداد سبق أن أعلنت أنها اتخذت إجراءات مشددة لمنع تحويل البيوت التراثية الى مبان تجارية حفاظاً على الإرث الحضاري والمعماري والجمالي للعاصمة بغداد ومنع تحويلها الى فعاليات تجارية واتخاذ أشد الإجراءات المنصوص عليها في القوانين والانظمة البلدية بحق المخالفين.
وذكرت الامانة أنها لم تمنح أي إجازة هدم لأي جهة تروم تحويل بيت تراثي الى مبنى تجاري في إطار سعيها الجاد للحفاظ على هويتها المميزة وتأصيل القيم والعناصر الاثرية فيها التي تعد الركيزة الأساسية للمحافظة على المباني والمناطق التراثية في العاصمة بغداد. موضحة: أنها تحرص على صيانة وترميم البيوت التراثية بالطريقة التي تحفظ لمدينة بغداد مكانتها ونسيجها العمراني المميز بالتعاون والتنسيق مع الجهات ذات العلاقة المعنية بشؤون الثقافة والتراث والآثار.
وبشأن تكرار الحرائق ومحاولة إلحاق الضرر بالبيوت التراثية البغدادية بيّن المختص بالتراث العمراني البغدادي زين عصام لـ(المدى): بالعادة يكون الحريق لتخريب المبنى أو فقط إظهاره متضرراً ثم يأتي رجال الدفاع للاطفاء وكتابة تقرير عن الاضرار التي لحقت بالبناء. منوهاً الى البعض من ضعاف النفوس الذين يعملون في متابعة ومراقبة هذه البيوت التي تقع على عاتقهم مسؤولية المحافظة عليها من أي ضرر وتدمير.
وبشأن الحريق الذي اندلع قبل ايام في احد البيوت التراثية في منطقة باب المعظم والذي يعود بناؤه الى حقبة الثلاثينيات أوضح عصام أن البيت تم استئجاره وتحويله الى معمل نجارة وموبيليات، ومن يشاهد البيت قبل الحريق يعرف ذلك بل حتى شكل الشبابيك الخارجية . لافتاً الى قيام أحد العاملين مثلما نقل بإشعال النار لغرض التدفئة لكن النار انتشرت بسرعة البرق . مبيناً: حسبما أعلم ان الدار تعود الى أملاك الدولة ومن المفترض ان تحافظ عليها.
وبشأن كيفية المحافظة على ماتبقى من إرث بنائي عمراني ذكر المختص العمراني ان هذه المنطقة للاسف تحولت الى صناعية ولك أن تتخيل كيف تحول بيت وزير المعارف الى معمل دوشمة مطل على ساحة واسعة ليس ببعيد عن أمانة بغداد ودوائرها أو مراقبيها. مشددا على أهمية أن يكون هناك تحديد لشكل نوع العمل الذي يمارس في تلك البيوت التراثية وأن تكون لمجالات معينة.
قانون الآثار والتراث على الرفّ
المادة 28 من قانون الآثار والتراث تنص على: أولا – لا يجوز– التجاوز على المباني والأحياء التراثية المعلن عنها في الجريدة الرسمية او هدمها او تغيير المهنة والاختصاص الذي يمارس في المحلات والاسواق والشوارع التراثية أو إلغاء وظيفتها الاساسية التي منحتها الصفة التراثية.
ب – إلغاء الصفة التراثية لمحل تراثي قائم في ملك الغير عن طريق تخليته، وتقدر الهيئة العامة للضرائب بدل الايجار في حالة الخلاف بين المؤجر والمستأجر حفاظاً على المحل التراثي ومنع زواله.
ج – هدم الأبنية المشمولة بالحفاظ او الموثقة او إعادة بنائها او ترميمها او تغيير استخدامها إلا بموافقة السلطة الآثارية وإجازة من الجهة المشاركة تؤمن التجانس مع الخصائص المعمارية والمقاييس العامة لمنطقة الحفاظ والأبنية الموثقة والمحافظة عليها ويبت في منح الإجازة خلال 30 ثلاثين يوماً من تاريخ تقديم الطلب.
ثانيا – للجهة المشاركة أن تأمر المخالف لحكم الفقرة ج من البند أولا من هذه المادة بمعالجة المخالفة بالطريقة والمدة التي تحددها له وإلا عالجتها على نفقته.
ثالثا – تعوض الجهة المشاركة المتضرر نتيجة تثبيت حقوق الارتفاق على ارضه المنصوص عليها في البند ثالثا من المادة 23 من هذا القانون او الإخلاء عن المناطق التراثية وفق البند ثانيا من المادة 24 من هذا القانون خلال 90 تسعين يوما من تاريخ تثبيت حقوق الارتفاق او الإخلاء وبخلافه يعد قرار الجهة المشاركة بشأن تثبيت حقوق الارتفاق او الإخلاء مسحوباً.
بعض فقرات القانون منعت التصرف بالملك من قبل الورثة وكان من المفترض ان تقوم دائرة التراث بشراء تلك المنازل من أصحابها ومن يود بيعها لكي لا تسمح بالهدم او التحويل الى مبنى آخر، تطبيقا لقانون حماية التراث، لكنها ايضا تعزو الامر الى التقشف وعدم وجود الاموال فضلا عن غياب خطط التاهيل والصيانة على هذا الارث العمراني الذي يعد من سمات العاصمة بغداد.
وتضم أكثر من 13٠٠ منزل تراثي، تعرّضت غالبيتها للهدم او البيع بطرق مشبوهة، او أعيد بناؤها بطرق حديثة، ولم يسلم منها سوى 4٠٠ منزل او أقل، معرّضة بدورها للمصير نفسه، رغم محاولات الامانة بالحفاظ عليها، غالبية تلك المنازل كانت لشخصيات عراقية مهمة آنذاك، ويقوم الورثة –عن جهل ربما- ببيعها او التصرف بها، متناسين كونها إرثا حضاريا لمجتمع بأكمله، إذ كان من المفترض ان تتحول الى متاحف تضم مقتنيات وذكريات أشخاصها، لتتمكن الاجيال الطالعة من مشاهدة بقايا مدينتهم قبل الانغماس في عالم الحداثة وتخريب ما بقي منها.
محو التراث العمراني والمحافظة عليه
المهندس المعماري هشام المفتن بيّن لـ(المدى) أن هذه البيوت التراثية لايمكن لأصحابها بيعها ولا التصرف بها مثل الهدم وإعادة إعمارها او التلاعب بواجهاتها كما حصل مع بعضها حين غطيت بـالاكيبوند. موضحا لأن القانون لا يسمح بذلك باعتبارها من الارث البنائي المهم. مستدركا: لكن المشكلة ان اغلب اصحاب هذه البيوت من الورثة واغلبهم يريد تقاسم الارث وبيعها خاصة ان هذه البيوت تقع في مناطق تجارية. مستطردا: وبما ان الدولة لاتسمح لهم بذلك وفق قانون حماية التراث والآثار ولا تعوضهم بمبالغ مالية او تشتري البيوت منهم لذا يلجؤون إلى شتى الحيل ان كان بالاتفاق مع بعض الاشخاص في الامانة او دائرة التراث والآثار او عبر اختلاق الحوادث المفاجئة مثل الحرائق بوجه الخصوص او فتح مياه الشرب وإغراقها بشكل تام.
ويسترسل المفتن : كان من المفترض ان يتم رصد أموال خاصة لهذه البيوت لأجل المحافظة عليها، لكن الذي يجري عكس ذلك للاسف الشديد. مشدداً على أهمية وجود خطة متكاملة الجوانب المالية والبنائية لأجل المحافظة على هذا الارث الذي لو وجد في دولة اخرى لتم إيلاؤه عناية خاصة مع اهتمام حكومي. مؤكدا أن الامر لو بقي بهذا الشكل فقريبا لن يبقى أي بيت من هذه البيوت.
فيما أوضح المهندس المعماري سمعان كريم لـ(المدى) من المفترض ان يجري تشخيص للمباني التراثية بشكل دقيق من قبل لجنة تشكل من خبراء بهذا الشأن، وقد يكون من المفيد الإشارة الى تحديد عمر المبنى الذي يُعدُّ تراثيا ،لأجل وضع آلية معينة. مسترسلا: ولكي تجري حماية المبنى التراثي من الحرق او الأتلاف بغية تحويله الى مرفق تجاري على أمانة العاصمة أن تأخذ تعهداً من مالك المبنى بالمحافظة عليه وتحمله النتائج كافة المترتبة على إتلافه أو الإضرار به، وبخلاف ذلك يجب على الأمانة أن تضع يدها على المبنى وتتولى هي المحافظة عليه بعد تعويض عادل لصاحبه.
وشدد كريم على دور الأمانة والدوائر المهتمة بالعمارة العراقية دراسة وتحديد ملامح التراث المعماري العراقي وتبدأ بعد ذلك ببناء كل الدوائر الرسمية وفق تلك الملامح وتطبيقها. مضيفا: عند ذاك ستكون هناك الكثير من الأبنية التراثية المملوكة للدولة والتي لا يمكن أن تمتد اليها يــد القطاع الخاص بالتخريب والتدمير. متابعا: كما يمكن تشجيع المواطنين ممن يرومون بناء بيوتهم بجملة امتيازات لو تم البناء الجديد وفق التراث المعماري البغدادي والشناشيل.
فيما يسأل فرهاد درويش مدرّس يسكن منطقة الفضل حيث يمنعون الترميم او إعادة بناء اي بيت قديم بذريعة أنه تراث. مردفاً: فإذا أصبح ضمن الآثار هل من الجائز ان يتم استغلاله لأن يكون معملا او ما شابه. متسائلا: الى متى تبقى مناطق مركز العاصمة أماكن خربة بحجّة التراث الذي للأسف لم تعطه الجهات المسؤولة أي أهمية.
فيما نوّه فيصل عبد الوهاب الى وجود أهداف في إهمال هذا التراث العمراني من قبل الحكومات المتعاقبة بعد 2003 بحجج عدة. لافتاً الى شارع الرشيد الذي تحول الى خربة رغم كل الوعود الحكومية بإعماره وترميم بناياته والسبب اسمه! مطالباً الجهات التي تريد المحافظة على هذه التراث شراء البيوت من أصحابها أو إعطائهم قروضاً ومنحاً للتأهيل أو إعادة البناء وفق نفس الطراز والمواصفات المعماريّة.