لم أكن قد خططتُ للذهاب الى قصر الحمراء أثناء زيارتي لمدينة ملقا جنوبي أسبانيا، لكن بما أني اكتشفت بأن الذهاب من ملقا الى غرناطة يمكن عن طريق الباص، لهذا أعددتُ نفسي لذلك دون تردد وأنا أفرش خارطة اسبانيا على طاولة الموزائيك الصغيرة، في البيت الذي سأقضي فيه أسبوعين. لكني مع ذلك سمعتُ من صاحب البيت قبل أن يغادر، بأن مئات الناس يقفون هناك في طابور طويل، بإنتظار شراء تذاكر الدخول. ولهذا السبب قمت بحجز التذكرة مبكراً عن طريق النت، بإنتظار سفرتي الجديدة التي تفرعت من سفرتي الاساسية.
إمتلأ الباص بركابٍ من جنسيات مختلفة، ومضى بنا سريعاً بإتجاه غرناطة، في طريق تتخلله بعض التعرجات التي تربضُ فوق مجموعة من التلال، لنسلك بعدها طريقاً مفتوحاً، تحيط به بساتين الزيتون الداكنة التي إمتدت لتغطي الأفق على الجانبين. حقول زيتون تشبه الغابات من شدة كثافتها. الباص يمضي وأشجار الزيتون تمضي معه أيضاً، بل هي تتكاثر بشكلٍ عجيبٍ وكأنها لا تريد أن تنتهي ولا أن تتوقف، وقد تلاصقت قممها وتتداخلت مع بعضها، تحيطها من الأعلى سماء زرقاء داكنة، وتحتضنها مرتفات بعيدة شاحبة تغيب مع الأفق. هنا في هذا المكان عرفتُ لماذا توفر هذه المنطقة لوحدها نصف احتياجات اسبانيا من الزيتون.
بعد ساعتين تقريباً، وصل الباص الى غرناطة، فإتجهتُ الى خارطة المدينة التي ثُبِتَتْ محاذاة الشارع الرئيس، لأعرف الإتجاه الذي يجب عليَّ أن أتبعه. الطريق الى قصرالحمراء كان مرتفعاً، فسحبتُ خطواتي بهدوء نحو الأعلى، بينما أعداد كبيرة من السائحين القادمين من قمة المكان يمرون بجانبي بسرعة نحو الأسفل، وهم عائدون من قصر الحمراء. مرَّت نصف ساعة قبل أن أجد نفسي وجهاً لوجه أمام البوابة التي كُتِبَ على الجدار المحاذي لها، باللغة العربية والاسبانية (قصر الحمراء).
دخلت المكان وإذا به يشبه مدينة بُنِيَتْ داخل مدينة، بل أجزم إنها جنة حقيقة بناها الانسان العربي قبل ما يقارب ألف سنة، يالهذا القصر من مكان يعطي للتاريخ والحضارة أهميتهما ويقف واثقاً ومنتصباً كبناء مذهل يجذب ملايين الناس بقوة تصميمه وجمال بنائه، بأسواره وقلاعه وحصونه وقاعاته وممراته المزخرفة وسقوفه الخشبية المطرزة بالكتابات والأشكال النباتية المذهلة، في كل مكان تنتشر الباحات المليئة بالزخارف والنافورات، وتتدلى المقرنصات من السقوف مثل عناقيد العنب، لتحيل المكان الى جنة لا شبيه لها في عالم العمارة. وإضافة الى الزخارف، تمتلأ جدران قصر الحمراء بكتابة الأدعية والآيات القرآنية وبعض المقاطع من الشعر، وقد غُطَّيَتْ أعالي الجدران بالزخارف الجصية، بينما أخذ البلاط ذو النقوش الهندسية، مكانه أسفل الجدران. وهنا في كل مكان تقريباً نقرأ جملة (لا غالب إلا الله) والتي امتزجت مع كل زخارف القصر وتداخلت معها. وهي الجملة التي رددها القائد أبو عبدالله محمد الأول، حين دخل غرناطة، لذلك أصبحت هذه الجملة بمثابة شعارٍ للمدينة.
وبالنسبة لتسمية (الحمراء) فهي تعود الى لون التربة الحمراء التي تغطي التل الذي بُنِيَ فوقه القصر، ويقال أيضاً، بأن هذه التسمية قد جاءت من بنو نصر الذين يُسَمَونَ (بنو الأحمر) الذين كانوا يحكمون غرناطة وهم الذين بَنوا هذا القصر.
قضيتُ يوماً كاملاً داخل قصر الحمراء، وقبل أن أخرج، مددتُ يدي، ومرّرتُ أصابعي فوق جدرانه التاريخية المذهلة، فإنتابني شعور غريب وأنا أتخيل أيدي البنائين قبل ألف سنة وهي تلامس أصابعي، لتخطر في ذهني بعدها خيالاتهم وهم يجوبون الأروقة ويثبتون الزخارف على السقوف، كذلك تناهى الى سمعي إيقاع بعيد لخطوات عمال، تتداخل مع أصواتهم لتشكل أغنية أندلسية مازالت تستعيد نغماتها في ذات المكان.
باليت المدى: قصر الحمراء
[post-views]
نشر في: 24 فبراير, 2018: 07:11 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...