TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: في مباهج الطين، في قبح الإسفلت

قناطر: في مباهج الطين، في قبح الإسفلت

نشر في: 25 فبراير, 2018: 07:27 م

حبّات المطر القليلة التي سقطت أمس، في البصرة، أنعشت ذاكرة الطفل الذي كنته، سقطت على القلب الذي جفت أوردته شوقاً لرائحة التراب، معطراً بالماء، المزن. حنين لا يصدق، يشدني للون الدخان المنبعث أزرق، من كوخ أبي المهجور هناك، لطعم الزبدة في الرغيف الساخن، لم تحسن لفّه أمّي، فتتخللت قطرات الزيت بين فروج أصابعي، أتفاداها بالمصِّ واللطع. شوق لا يدركه الناس الآن، لابريق الحليب، ينحشر في الموقد، مغموراً حدَّ التوقد بين الجمر. هذه الروح المأمولة ماءً وخضرةً بطبعها، تتحرك ببطء، تهبط قيعة ابتدعتها الحبّات البلورية، تقف تحت قمرية الورد الجهنمي، الذي يقودني الى دارة الخطار، بين ما سيتركه الخريف من خوف وكركرات، ستظل متوجسة، تخشى وقوف الشمس، تدافعها الناري بين السعف، تحاول، ما استطاعت نسيان الصيف الماضي.
لم تمض سنة واحدة، منذ أن قامت البلدية بتبليط طريقنا الترابي القديم بالإسفلت، الذين يملكون المركبات فرحوا بذلك، إذ، لن يعلق الطين باطارات مركباتهم، كذلك فرح طلاب المدرسة، ومعهم الذين وفدوا قريتنا بعد العام 2003، هم اختاروا الاسفلت سككا ومسارب الى منازلهم، أما الذين ألفوا الطين، وتنقلت روائحه في اجسادهم، غادية ورائحة عبر الأزمنة والدهور، مثلي، هؤلاء، لم يحسنوا الظن بالبلدية، ولن يكون فعلها فأل خير عليهم، ذلك لأنَّ الإسفلت الاسود، سيقود الى خراب البساتين، ستمر مركبات كبيرة وشاحنات قديمة عملاقة، ستنقل الطابوق والاسمنت والحديد، وسيختفي النخل ومعه تختفي الظلال، وستصبح قريتنا الآمنة الوادعة جزءاً قبيحاً، يلحق قسرا بالمدينة القبيحة بالأصل، وصدق ظنُّنا، فما أن انسحب آخر صهريج للإسفلت حتى هبَّ هؤلاء، يشترون الاطيان ويبنون البيوت والمحال والمخازن، وفي بحر مرٍّ، علقم من الأيام والليالي امست القرية ضريحاً للندم والتذكر.
لم تحسن البلدية صنعا بتبليط مداخل القرى في ابي الخصيب، فقد كان للاسفلت معنى واحداً هو للغربة والضياع، وكانت جنايتها كارثية على الناس، حين فتقت بين النخل طريقاً توصل بين بحر الفاو وخليج رأس البيشة، هذه التي ألصقتها بالطريق الذاهبة الى العشار والعائدة منه الى البصرة. كان القاضي أحمد نور الدين الانصاري صاحب (النصرة في أخبار البصرة) يقول:" كان على الذاهبين الى حمدان من مهيجران أن يسلكوا طريق يبساً في السباخ اليها، ومثلهم كان يفعل أهل أبي مغيرة ونهر خوز وباب سليمان والسراجي وعويسيان. قرى الماء بحاجة دائمة الى القناطر والجسور، وليتها كانت من الجذوع، ليت الخشب(الاسونت) كان واحداً من معاميدها، إذ ليس الاسفلت واحداً من مباهجها والله، فلا يمننَّ أحدٌ علينا بأسوده، نحن أبناء الطين والسعف والحلفاء والقناطر الجذوع، فلا أجمل مما يعلق بأقدامنا من طين، لا أبهى مما يساقط على اكتافنا من غبار. نقولها :"نحن لا نلبس أخفافنا وجاءً من الماء والطين، فالطين مادتنا للمباهج، وما الوحول التي تحيط بنا إلا ما نترقبه في الطفولة.
عند قائمة جسر(الوسطاني) على الطريق التي تفصل بستان (البيلت طارق) عن بستان المختار، الحاج عبد الرزاق، تحت شجرة الخرنوب، بزهرها، الذي ظل يسقط أصفر الى اليوم، كنت توصلت الى حلِّ معادلة الكيمياء، التي استعصت علي في الليل، فأنان الى الآن أتذكر حجم نواة التمر، التي امسكتها وكتبت، لكأنني أرى خاتمة المعادلة بالخطوط البيض، التي خلفتها النواة، أنا الى اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، اتحسس أصابعي كلما وقفت عند قائمة الجسر. ياه، كم كان التراب طيباً، كم كان الاسفلت قبيحاً ؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram