أصبح مصطلــح ( مابعد الإنسانية Transhumanism) في أيامنا هذه واحداً من أكثر المصطلحات تداولاً ، ويمتاز هذه المصطلح بخصيصة فريدة تجعله مختلفاً عن المصطلحات السابقة له ؛ إذ أنّ هذا المصطلح هو الأول من نوعه الذي تمّت هيكلته بدفعٍ من التطوّرات الثورية في العالم الرقمي وليس بتأثير مواضعات آيديولوجية صرفة - أو مطعّمة ببعض المؤثرات غير الآيديولوجية - مثلما كان يحصل سابقاً .
يرتبط مصطلح ( مابعد الإنسانية ) إرتباطاً وثيقاً مع الإنسان الرقمي والبيئة الرقمية ، ويشيرُ إلى حالة وصفها العالم الذائع الصيت راي كيرزويل Ray Kurzweil في كتابه الأشهر ( المرحلة الإنفرادية قادمة The Singularity is Near)، والإنفرادية تعني بشكل عام حالة تختلف نوعياً وعلى نحو جذري بين ماهو سابق لها وماهو لاحق عليها ، وفي حالة العالم الرقمي والذكاء الإصطناعي تعني تحديداً تلك الحالة التي لايمكن فيها للإنسان متابعة إستمرارية وجوده من غير دعمٍ ( جزئي أو كلي ) من الوسائط الرقمية التي ستتجاوز مرحلة الوسائط الخارجية ( مثل الذاكرات الحافظة للبيانات ، الهواتف النقالة ، قارئات الكتب والنصوص ،،، الخ ) لكي تصل مرحلة التداخل البيولوجي مع وظائف الكائن الحي (الرقاقات المزروعة في الدماغ البشري ، أجهزة تدعيم السمع أو الرؤية ، الوسائط التي تسمح بخلق بيئات إفتراضية ذات سمات محددة ولأغراض محدّدة هي الأخرى ،،،، الخ) ، ومايدعو للدهشة أن كيرزويل وضع تأريخاً هو 2029 رأى فيه أن الكائن البشري لابدّ أن يستعين بعده بشكل من أشكال المؤازرة الرقمية الجزئية ؛ أما لحظة التحوّل الإنفرادي الثوري العميق والشامل فستحصل مع عام 2045 !! ؛ إذ حينها لن يعود بمستطاع الكائن البشري التعامل مع بيئته من غير قدرات إحتسابية ومُعالِجات للمعلومات والبيانات تفوق قدرته الذاتية مهما توفّر على قدرات بيولوجية وعقلية متفوقة ، وسيكون زرع الرقاقات الخاصة بتعظيم القدرات الإحتسابية ومُعالَجة المعلومات في دماغ الإنسان أشبه بأخذ جرعة من التطعيم ضد الأنفلونزا أو أي مرض وبائي آخر .
لسنا نتحدث هنا عن خيال علمي ، وليس (كيرزويل) شخصية أسطورية أو ناسكاً متزهّداً بلغت به الفيوض الروحية مبلغها ففاضت رؤاه بهذه الفنتازيات المدهشة ؛ بل هو شخصية معروفة سبق له العمل أستاذاً للذكاء الإصطناعي والروبوتيات في معهد ماساتشوستس التقني MIT الشهير ، ويعمل اليوم مديراً للبحوث والهندسة في شركة غوغل الشهيرة ، وعندما يتحدث الرجل علينا أن نتوقّع تحقق رؤيته على أرض الواقع فهذه الشركات تعرف كيف تبذل الكثير من المال والجهود الخلاقة لإنضاج الأفكار وجعلها ممكنة التحقق ، ورصيدُها في مثل هذه الإنجازات حافل بجلائل الأعمال التي تستحقُّ الثناء والتقدير من جانب المستخدمين ( ونحن منهم ) .
ماذا نحن فاعلون إزاء مرحلة ( مابعد الإنسانية ) هذه ؟ صحيح إن العديد من بلدان العالم قد لاتكون مساهمة مباشرة في هذه الثورة الرقمية ؛ غير إنّ الأهمّ هو أن نعرف كيف نتعامل مع نتائجها ومفاعيلها : كيف سنتعامل مع حقل التعليم الذي سيشهد ثورة جذرية تعيد تعريف دور كل من الطالب والأستاذ والبيئة التعليمية ؟ كيف سنتعامل مع فرص العمل التي ستشهد ولادة أعمال جديدة مثلما ستشهد إختفاء أعمال أخرى ؟
الأسئلة كثيرة ، والتحديات عظيمة ، وثمّة إستقطابٌ جديدٌ سينشأ ليمعن في تكريس سطوة المتحكّمين بأقدار الشعوب ؛ بل وبمصير النوع البشري أينما وُجِد.
قناديل: عالم مابعد الإنسانية
[post-views]
نشر في: 3 مارس, 2018: 06:16 م