نادرة هي اللوحات المرسومة بأناقة كبيرة وعناية فائقة، لوحات حين نقف قبالتها تَشِّعُ منها جاذبية خاصة، وعندما نتفحصها أكثر نرى كيف صُنِعَتْ بإحتراف عالٍ ومعالجات تُطرب القلب وتُمَتِّعُ العين، لتستقر بعدها في الذاكرة كشيءٍ جميل ونادر. إن كانت هذه الكلمات تنطبق على لوحات معينة في تاريخ الفن، فهي بالتأكيد تأخذني أيضاً وبكل نعومة ويسر نحو لوحات الفنان الباهر عامر العبيدي، هذه اللوحات التي تحتضن الجمال كله، بل الجمال هو الذي يغفوا بين ثناياها ويستقر الى الأبد.
هنا قد يتساءل البعض، لماذا أتحدث اليوم وبكل هذا الحماس عن هذا الفنان وعن لوحاته، فأقول بأن علينا أن لا ننسى كبار مبدعينا وصانعي ثقافتنا وفنَّنا، هذا الفن الذي نتباهى به أمام الآخرين وفي كل مكان في العالم، وفي نفس الوقت نغمط حق مبدعيه وهم أحياء بيننا، لماذا لا نشير لهم ولأنجازاتهم وهم على قيد الحياة، وما نفع قطعة قماش سوداء نعلقها على هذا الحائط أو ذاك كنعي لهم بعد وفاتهم!؟ هناك شخصيات فَذّة وعظيمة في ثقافتنا (وعامر واحد منها)، شخصيات لا نمنحها المكانة اللائقة وهي تعيش وتتنفس بيننا، ثم نغدق عليها الثناء والعرفان بعد أن يغيبها الموت، لنأتي ونتساءل بعدها بكل بجاحة عن سبب تدهور الثقافة وإنحطاط القيم وإختلاط الحابل بالنابل.
لا أريد لكلماتي هنا أن تمتحن فقط محبتي وتقييمي لأحد رموز فَنَّنا التشكيلي، لكني في ذات الوقت لا أود أن يغمط حقه وسأبقى أشير اليه والى أمثاله من الكبار الذين صنعوا جانباً مضيئاً في ثقافتنا وأبداعنا. فعند تذكرنا لعامر العبيدي، فهذا معناه أن نستعيد الفن التشكيلي العراقي بكل عافيته وحضوره وتأثيره، وجماله أيضاً. فقد قدَّمَ هذا الفنان الكثير للتشكيل العراقي، وفتح له الطريق ليكون في قمة إزدهاره، سواء بأعماله الأخّاذة التي رسمها أو حين كان مديراً للمعارض ومساهمته في إرساء معالم واضحة للفن العراقي، وقت كانت بغداد تحتضن البينالات والمعارض ومهرجانات الفن المعاصر.
تبقى لوحات عامر العبيدي من أجمل وأهم اللوحات في تاريخ الفن العراقي من حيث التقنية الموضوع والمعالجات والأسلوب الشخصي، حيث رسم الخيول بطريقة تعبيرية فريدة، فيها ملامح مدرسة عراقية وبنوعية عالمية، تلك الخيول التي مازالت تركض فوق قماشات لوحاته بعيداً عن مرسمه البغدادي، ومازال صهيلها يسابق ريح غربته وإبتعاده عن الوطن، تلك الخيول التي لم يرسمها احد بطريقة مختزلة ومدهشة في الفن العراقي مثلما قدمها هو وكذلك الفنان العظيم كاظم حيدر. إمتزجت في أعمال العبيدي التعبيرية والرمزية حين قدم لنا معارض عديدة حول وحدة الانسان واغترابه وعزلته، حيث يظهر أشخاص وحيدون، يجلسون على كراسٍ متآكلة تظهر عليها بصمات الزمن وفي أماكن تبدو مهجورة، ويحيط بهم فضاء يتماهى مع الأفق ليمنحهم الكثير من الوحدة والغياب. وفي لوحاته التي رسم فيها الخيول أضاف الكثير من الوحدات الزخرفية الشرقية وبعض التفاصيل التي تتلاءم مع الفرسان وحركة الخيول وإيماءات رؤوسها، وقد رسم كل ذلك بعين صافية تبحث عن الجمال حتى في الأماكن الأكثر وحشة، وبيدٍ مرهفة تقود موهبته الفَذَّة نحو إسلوبٍ نادرٍ في الرسم. وهنا تبدو مقولة (المحلية التي تؤدي الى العالمية) ليست في مكانها المناسب فقط، بل تبدو وكأنها قيلت فقط لتناسب اعمال العبيدي.
في غربته قَدَّمَ عامر العبيدي مجموعة من المعارض الجميلة، حيث طغت الرمزية أكثر على أعماله التي تداخلت فيها ملامح الوجوه مع الخيول والطيور وتلويحات الأيدي، لكن تبقى العزلة هي موضوعه الأثير، حيث تظهر على قماشاته نساء وحيدات مازلن على مقاعدهن بإنتظار قدوم ساعي بريدٍ يجلب لهن شيئاً من الوطن.
أعرف أن التاريخ سينصفك ياصديقي المبدع، لكني الآن، أَوِدُّ أن أنصفك مع نفسي وبالقدر الذي أستطيعه وأعيد إليك جزءاً من جمالك وجميلك وروعة تاريخك المضيء.
باليت المدى: تحية لعامر العبيدي
نشر في: 3 مارس, 2018: 06:26 م